منبر الأصدقاء

الإمام موسى الصدر في “ذمَّةِ الحقيقةِ”: فكرٌ عربيٌّ نهضويٌّ بصبغةٍ أُمميَّةٍ

الخميس 9 أيلول 2021

د. منى رسلان


يُشكِّل الفَهم الوَّاعي والمنطق الحِججي لدى الإمام المُغيَّب السيِّد موسى الصدر، أحد أبرز مُنطلقاتِ مشروعِهِ الخَلاصي للمواطن في الوطنِ العربيِّ بشكلٍ عام، وللإنسانيَّةِ جمعاء بمعناها الأوسع.

وانطلاقاً من المفهوم الإسلاميّ الّذي ركَّز على قيمِ الوجودِ الإنسانيِّ على الأرض، وعلى مفهوم القِوى الدفينةِ المُحرِّكة للذَّاتِ البشريَّةِ والحركةِ بين الذَّاتِ الفرديَّةِ _ النفس ، والجسدِ التُرابيِّ، والرُّوح، بهدفِ المُوازنة إلى حدَّ ما بينها، وسعِي الإنسان خلال صيرورتهِ الحياتيَّةِ لايجادِ صيغةٍ تكامُليَّةٍ _ إلى حدٍّ ما_ وما يُفضي عنها من توازنٍ في الشخصيَّةِ المُنطلقةِ ضمن إطارِ الجماعةِ، كلّ الجماعة بمفهومِهَا الأُمميّ، لا بجزئيتها الحياتيَّةِ المعيوشة؛ إذ تسطعُ مُسلَّمة “مكارم الأخلاق”، فلا سلوك اجتماعيّ قويم من دون توجيهٍ أخلاقيّ، ولا حياة اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو ماليَّة أو اقتصاديَّة، أو توجيهيَّة أو تثقيفيَّة، تتجلَّى بحقَّ، إنْ لم تكنُ هذه المُسلَّمة ركيزةً أساس في حُضورها.

ههُنا، تكمنُ المفارقةُ في أنَّ الدّين الإسلاميّ الحنيف، يحثُّ بشدَّة المؤمنين على طلبِ العِلم في سبيل النهوضِ بأخلاقِ المُجتمعاتِ والأُمم.

بيد أنَّ أيَّ مشروعٍ نهضويٍّ _ إنسانيّ أو دينيّ أو اجتماعيّ لا يمكن له أن يتحقَّق، إن لم تتوافر له الرؤيةُ ومُستلزماتُ النهوضِ بالمفهومِ التقدميِّ.

انطلاقاً من المُسلَّمات الأسمى والأرقى المُستمدَّةِ من حياةِ الأُمّةِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، صاغ الإمام المُغيَّب موسى الصدر، مشروعَهُ النهضويّ الحقيقيّ؛ وشكَّلت ظاهرة الإمام الإجتماعيَّة- الإنسانيَّة، والفكريَّة والثقافيَّة والعلميَّة والسياسيَّة والتنويريَّة _ التوحيديَّة، إحدى أبرز وأهمّ الظواهر القياديَّة المؤسّسيَّة والمؤسَّساتيَّة في القرن العشرين، في لبنان والعراق، والعالم العربي آنذاك.

قال فيه الشيخ الشاعر جعفر رشيد العاملين:

“في محرابِ عينيكَ سجدَت كلماتي

تفانت في ملكوت زُرقتِها

وذابت

… لتتطوفَ حولَ أهدابِها أشواط َوجعِ السِّنين” .

***

وبما أنَّ “دين الله الحقَّ”، فقد “كانت الأديان واحدةً حيث كانت في خدمةِ الهدف الواحد، دعوةً إلى الله وخدمةً للانسان؛ وهما وجهان لحقيقة واحدة”، كما يُعبِّر الإمام؛ إذ تمكَّن من سبكِ شخصيّته برؤيةٍ مجتمعيَّةٍ وانسانيَّةٍ ودينيَّةٍ وسياسيَّةٍ وأخلاقيَّةٍ مُنفتحة وشاملةٍ وتتخطَّى حدود الزمان _مكانيَّة وحتَّى الأقاليم والدول والقارات والشعوب واختلافاتها، مُستلاً من القيمِ الدينيَّةِ المُسلَّمات التوافقيَّة الجامعة بين الأُمم والشعوب على تنوّع تطلُّعاتِها وقيمِها وعاداتِها وأدبياتِها وسلوكِها، وأديانِها ومعتقداتِها وطقوسِها، بفهمٍ حقيقيّ ورؤيةٍ ثاقبةٍ، ونظرةٍ موضوعيَّة شاملة.

مُستشهداً بقولهِ الله تعالى:

?كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ

النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ? وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ? وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى? صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ? (ص).

***

لقد أثار الإمام موسى، مسألةَ القيم الأخلاقيَّة والعِلم في المُجتمع اللبنانيّ والعربيّ _ فأحبَّ الجماهير والجماهير أحبَّته_ فسخَّر في شخصه العِلم بمفهومهِ الصحيح، للمُساهمة منهُ في نهوضِ مُجتمعهِ ووطنهِ من كبوة “التجهيل”؛ إذ كان يجترحُ الحلول العملانيَّة تذليلاً للمُشكلاتِ المعيشيَّةِ والعائليَّةِ والقرويَّةِ والعشائريَّةِ والقبليَّةِ والوطنيَّةِ، بقُدرةٍ هائلة على الحِوار، مُنتصراً للحقِّ، في محاولةٍ منهُ لتظهير هذا العقل العربيّ المُنفتح، وهو الذي أعلن في القاهرة أنَّ تعايش الطوائف هو التجربة الحضاريَّة الوحيدة في العالم؛ فكان له أن تبوّأ موقعاً رائداً بين الشعوب والأُمم.

كان الإمام موسى خطيباً منبريّاً- إعلامياًّ، كربلائيّ الهوى ، يحمِلُ في ذاتهِ هذا التوق المعرفيّ والشغف الدَّائمين للبحثِ عن قيمِ الحريَّةِ والعدالةِ والحقيقةِ وكينونةِ الإنسانيّةِ.

قال كمال جنبلاط في مضمار الحقّ:

“إنَّ الصِّراع في سبيلِ الحقّ هو انتصار في كِلتا الحالتين، أكانت نتيجته على السَّواءِ: الاستشهاد المُضيء أو النَّصر السَّاحق.

والانتصار هو انتصار النَّفس القويَّة الجميلة فينا، انتصار الإنسانيَّة فينا،

انتصار التطوّر على الرّجعيَّةِ، انتصار الحياة”.

***

لم يكن الإمام فقيهاً ومتنوِّراً قانعاً في شخصهِ فحسب، لا بل تعدَّى ذلك، ليكون باحثاً مُجدَّاً ونشيطاً بطبعه الحياتيّ، ومُخططاً لم ينحصر فكرهُ بالبحث في قضايا المجتمعِ اللبنانيّ الجنوبيّ أو العامليّ أو الشماليّ أو الجبليّ أو البقاعيّ؛ ولم يكن ذاك المُنخرط بالسياسةِ اللبنانيَّةِ الضيِّقة الغائرةِ في عبثيَّةِ الطائفيَّةِ والزبائنيَّةِ الخانقة،_ وهو المُعبِّر عن ذلك بقوله: “الطائفيَّةُ في لبنان بحث سياسيّ وليست بحثاً دينياً”_ بل كان ذلك المُتبحِّر في علومِ القرآن والأحاديث النبويَّة الشريفةِ وفي الإنجيل المُقدَّسِ وكُتب الحِكمة والكُتب الفقهيَّة والكُتب المعرفيَّة، وأسرار المعارف لدى الديانات الوضعيَّة؛ والغائص كذلك الأمر في علومِ اللّغةِ والشعرِ والنثرِ وعلومِ الكلامِ والسياسة والاقتصاد ومُندرجاتها، وعِلم النّفس وعِلم الاجتماع وسواها الكثير من المعارفِ ذات المشارب المتنوِّعة، فاِلتصق بعُرى وثقى بقضايا مجتمعهِ اللبنانيّ بأشملهِ، بانفتاحٍ فكريّ ومعرفيّ عميق، من دون تمييز، مُستدلاً على إمكانيَّةِ إحقاقِ العدالة والحقِّ المُجتمعيين من الكونِ المُنظَّمِ العادل.

قال عنه الرئيس فؤاد شهاب:

“لو كان هذا الرَّجل مسيحياً لقدَّسه المسيحيَّون.

يجب دعم هكذا رجال بكُلِّ ما نملك من قوَّة” .

***

بحث الإمام الصدر عميقاً في المُشترك في ما بين الديانتين الاسلاميَّة والمسيحيَّة، واللَّتين تدعوان إلى مبادئ أخلاقيَّة وإلى قيمٍ روحيَّة مُشتركة، وسعى إلى تمكين العلاقات بينهما؛ فهو القائل، أنَّ الطوائف الدينيَّة نوافذ حضاريَّة، غير أنَّ الطائفيين لا يعرفون لا مسجداً ولا كنيسة، وظلَّ مُتمسِّكاً بصيغةِ العيشِ المُشترك ومواجهةِ خطرِ المُخطّط الصهيونيِّ التفكيكيِّ للُبنان ولدولِ الجوارِ والمنطقة العربيَّةِ برُمَّتها.

قال عنهُ الملك عبد الله بن عبد العزيز:

“طوال سنين حياتي لم أرَ شخصيّة بهذا الذكاء

وسِعة الإطّلاع وحُسن الخُلق والمحبوبيّة،

مثل شخصيَّة الإمام موسى الصدر” ..

***

لقد شكَّل الإمام موسى الصدر فتحاً جديداً بين عُلماء الدين، وهو الَّذي مدَّ الفكر الإسلاميّ من معين فكره وسِعة اطلاعهِ بالكثير من الاجتهادات الفقهيَّةِ والكلاميَّةِ؛ هذا إلى جانب كونه ذاك الباحث عن الروابط المُحكمة بين القيم المُجتمعيَّةِ والدينيَّة والإنسانيَّةِ وسواها، وقيم العِلم العُليا، موظِّفاً موقعها في مشروعهِ النهضويّ.

وقال عنه الرئيس جمال عبد الناصر:

“ليت جامعة الأزهر تملك رئيساً كالسيّد موسى الصدر” .

***

إذاً، كان لا بُدَّ لهُ من مشروعٍ نهضويّ عظيم، ينطلقُ من “قضية العدالة الاجتماعيَّة” _ العمود الأساس في مشروعه _ والحوار الهادف الذي عدَّه الإمام حاجة لبنانيَّةً ضروريَّة مُلحَّة دوماً، تأميناً لاستمراريَّةِ هذا الكيان المتنوِّع بأطيافهِ وفئاته وايديولوجيَّاته وتشعُّباتِه واختلاطه _ والَّتي انطلق منها تحقيقاً لرؤاه _ إلى رِحاب صيرورةٍ مُستدامة تخدم الإنسان بروحيَّة العدالة القيميَّةِ الارتكازيَّة الَّتي تتخطَّى حدود الوطن، ومن خلال عمليَّة تكافليَّةٍ وتضامنيَّةٍ بمعناها الأوسع، ليس فقط بين أبناء “شيعته” و”سنيَّته” و”مسيحيَّته” و”توحيده”، بل ضمن صياغةٍ عمليَّة تكافليَّة أُمميَّة تواصليَّة، انفتاحيَّة وثيقة الصِلة بأواصرهِ، تصل بأسرِها مُجتمعةً إلى مُبتغاها التكامليّ _ التعاونيّ، بأنَّ “الاصلاح” في المُجتمعات و”نداء التغيير” لا يمكن لهُما أن يقوما بـ “القوّة”، وأنَّ فكرةَ العدالة الاجتماعيّة غير مرهونةٍ إطلاقاً بأيّ ظروفٍ، لأنَّ الثورةَ في المُجتمع أو النهوض بالوطنِ أو حتَّى السقوط سوف يطال الجميع. فهو القائِلُ بأنَّنا نحتاج إلى ثورةٍ من طبيعة أرضنا ومن وحي هذه السماء.

وأنشدتُه شعراً في قصيدتي “جود”:

” لم تكُن للمحزونين ذِكرَى،

ولا كنتَ للأنامِ عِبرة،

إنّما طيفك الرنّان في الصَّدرِ،

طافت بِهِ الملائِكَةُ

ما بين الوِهَادِ والهِضَاب

حيثُما تكشّف الوَرَع في مُحياك

تقشُّفاً واِحسَاناً”… .

***

تحلُّ مناسبةُ ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، غاصةً بذكرى الاختفاءِ القسريّ، غير أنَّ ضمائر الجماهير الَّتي عشقتهُ وارتقت بفكرهِ وتتلمذت على نهجِهِ، وتأبَّطت روحَ عينيهِ، تأبى ألاَّ تحتفل احتفاءً مجيداً بفلسفتِهِ الأُمميَّة والَّتي استمدَّها من فِضاء حقيقةِ الكون الفسيح، ولتضُجَّ الدُّنى بإمام الفلاَّحين والعُمَّال والمحرومين.

وقد قال فيه الشاعر ميشال جحا:

“س: سُئِلْتُ فيكَ الكلامَ .. هالني الطَّلَبُ!! ونازع الحِبرَ في أوصافِكَ الذَّهبُ!؟!

م: مَلَكْتُ نفسْي!! ورُحْتُ الوَحْيَ أَنحِتُهُ فلا المعاجمُ مَدَّتنِي ولا الكُتُبُ!!

ا: أولَمْتُ للسَّابِحات.. علَّ تُنجِدُني بحيثُ أنَّ .. إليكَ، البَدْرَ ينتسِبُ!!

ح: حلَّفْتُها بِسناها أنْ تُخبِّرَني نُبْلَ المزايا التي يَعَزُّ تُحْتَسَبُ!!

ة: تأوَّهَتْ .. ثُم قالت: “لَوْ سَرَتْ دُرَرٌ حَتَّى بِها تَصِفَ “الإمامَ” تَضْطَرِبُ!؟!” .

***

ذكرى إماميَّة تنويريَّة في “ذِمَّة الحقيقةِ”، لن تَخبُو أبداً.

الدكتورة منى رسلان

أستاذة النقد الأدبي المعاصر والمنهجية في الجامعة اللبنانيَّة

‎رئيسة اللقاء التقدّمي للأساتذة الجامعيين

‎عضو في اللجنة الوطنيَّة اللبنانيَّة لليونسكو

بيروت، الأحد في 29 آب 2021


Shares
facebook sharing button
twitter sharing button
messenger sharing button
whatsapp sharing button
sharethis sharing button