الاستقلال مفهوم يدغدغ الشعور ويجذب العقل ويستقطب الإرادة لأننا نتصوره بعكس ما يصبو إليه الإنسان من سيادة على النفس ومن حرية ولأن المواطن هو ذاته الإنسان الإجتماعي، ولأن الإجتماعية شرط أولي وأساسي لوجود الإنسان وتطوره وتفتحه أضحى كل فرد يعكس ويتصور في المجتمع ما يصب إليه ورغبه في حقيقة مشاهدة ذاته.

على أن المجتمع ليس له في النهاية وفي الواقع سوى كيان معنوي وقيمة عارضة يستمدها من إدراك حواسنا وتطلعات فكرنا واستنارات شعورنا وتوقنا، ولذا كان المجتمع والاستقلال كلاهما مما نضع فيهما دائما وأبدا من قيم ومفاهيم تتجسد في العادات والتقاليد والأحاسيس العامة وتدخل نفوسنا وتستوطنها من أبواب التربية العائلية والمدرسية ومن نوافذ جوارحنا وما ندرك بها حولنا وما نراه من تصرف الآخرين ومثالهم وشعورهم وتفكيرهم واعتمادهم. فكما أن الإنسان الفرد لا تتوفر له كينونة ولا يحظى بالتطور وتفتح بدون المجتمع فإن الإنسان بدوره يخلق المجتمع على الدوام وينميه ويطور مفاهيمه ويحيي قيمه ويدفع حريته ويقوم بنشاطاته . وردتنا هذه الخواطر في معرض التفكير بما يكون عليه موضوع الاستقلال ومعناه وشعاراته ومغزاه بعد معركة الاستقلال سنة 1943 التي كان شعب لبنان بطلها الأوحد وقد تكاثر ادّعاء البطولات تحسسنا جميعنا أن الاستقلال الذي كان غاية وهدفا مباشرا لنضال اللبنانيين سرعان ما تحول إلى وسيلة حية لأجل بلوغ أهداف أخرى اجتماعية واقتصادية وسياسية ووطنية.

في الاستقلال إنما هو الإطار الطبيعي الضروري لتمكين الشعب من أن يبني المجتمع على أساس العدالة والكفاءة والمساواة والأخوة والتضامن وأن يبني دولة الاستقلال التي يفترض فيها أن تكون دولة العلم الصحيح والكفاءة والإخلاص والعمل هذا هو واقع مسلك النضال والنشاط البشري فكل غاية تظل غاية أساسية إلى أن نحققها ثم تصبح في معظمها أداة ووسيلة وإطارا لتحقيق غاية أخرى وهكذا على الدوام.

( المرجع خطاب ألقاه كمال جنبلاط في مهرجان اقيم في طرابلس بمناسبة ذكرى الاستقلال نشرته جريدة الأنباء بتاريخ 17/1/1956)