رغم ما شهدته الحرب في غزّة من دمار وكوارث غير مسبوقة، فإنها لم تُحسم بالضربة القاضية لأيّ طرف. فلم يتحقّق نصرٌ حاسمٌ لا لإسرائيل ولا للفلسطينيين. والنصر يقاس من خلال ثلاثة عوامل: كسر إرادة أحد الأطراف واستسلامه، واحتلال أرض العدوّ، وتكبيده خسائر فادحة، والنتائج لا تفيد بتوافر هذه العوامل مجتمعةً أو معظمها على الأقلّ، بل يمكن القول إن ما تحقّق أن المقاومة صمدت ولم تهزم، لكنّها لم تنتصر، وإسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها الكبرى، لكنها لم تنتصر، مع أنها ألحقت دمارًا كبيرًا وموتًا هائلًا.

في تفسير قناعات ومفاهيم مقاربة حرب غزة وما رافقها على الجبهات الأخرى وبالذات في الجنوب اللبناني، وعندما يوضع المرء في خانة قبول الهزيمة حتى ولو من باب التقييم والبحث، لن يكون أمامه من مناص سوى قبول كل ما يرد تحت عنوان المقاومة بلا جدل ولا نقاش، للهرب من هذه “التهمة”. لكن مثل هذا الطرح الثنائي ليس مخطئا وحسب بل هو ربما يكون خطرا ايضا.

هنا يقتضي التوضيح، فالاعتراف بالهزيمة لا يعني بأي حال الاستسلام: فإسرائيل اعترفت بعد حرب 1973 بالهزيمة النسبية، ثم انطلقت من ذلك لإعادة بناء صرح عسكري أقوى مكّنها لاحقا من تحقيق انجازات كبرى. وكذا فعلت بعيد حرب 2006 حين اعترفت بالهزيمة (في مجال عدم تحقيق اهداف الحرب). وهذا افادها عبر دفعها الى تحويل حزب الله من تهديد أمني الى تهديد استراتيجي. ونتيجة هذا الاعتراف هي ما رأيناه في حرب 2023، والتي تكشف خلالها كم أفادت تل ابيب من اعترافها بهزيمتها النسبية في 2006

من المفيد وضع الأمور في نصابها في تصحيح جلجلة المفاهيم تمهيدا لاسراتيجيا مستقبلية، وفي مثل هذا الوضع الرمادي حول ما جرى خلال عامين من حرب تشرين، نتساءل: إلى أين تتّجه غزة الآن؟ نحو “أوسلو” ناقص أم زائد جديد، أم نحو فدرالية تتكوّن من قطاع غزّة، الذي يتمتّع ببعض المظاهر السيادية، ومعازل آهلة بالسكّان في الضفة، منفصلة بعضها عن بعض، ومن دون القدس، وبلا مظاهر سيادية، أم دولة فلسطينية حقيقية؟

 الإرادة في مقابل القوة.. لكن كيف توقفت الحرب

لا مجال للمقارنة بين مقومات المقاومة الفلسطينية العسكرية مع أرقى التقنيات التي امتلكها جيش الاحتلال او زوّد بها. ولكن يجب الاعتراف ان هناك عدة عوامل أوقفت الحرب، فتوقّف الحرب لم يكن مصادفةً، بل نتيجة تفاعل عوامل أساسية، في مقدّمها الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني الذي لم يرفع الراية البيضاء رغم الكارثة، ولم ينتفض في وجه السلطة القائمة في القطاع، رغم بعض المظاهر الاحتجاجية، وأثبت أنه متمسّكٌ بوجوده في أرض وطنه وحقوقه ولا يُهزم بالقتل أو بالإبادة. والمقاومة المسلّحة التي واجهت آلة الحرب الإسرائيلية عامَين، وبقيت واقفةً على قدميها رغم الخسائر الهائلة التي لحقت بها، وأفشلت تحقيق أهداف الاحتلال، والدليل أنها تولّت الأمن والحفاظ على النظام العام بعد التوصّل إلى وقف إطلاق النار.

ولكنّ تداعيات ما جرى وارتداداته، وخصوصًا بعد الجرائم التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية، وفي مقدمها الإبادة والتهجير والتجويع، وتجاوزت الانتقام وردّة الفعل على “طوفان الأقصى”، أدّت إلى إحياء القضية الفلسطينية وفرض مركزيتها عربيا مجددا، وتبنّي الرواية الفلسطينية من قطاعاتٍ واسعةٍ في امتداد الكرة الأرضية، وإلى جعل الاعتراف بالدولة الفلسطينية محلّ إجماع عالمي شبه جماعي.

أمّا إسرائيل، ففشلت في تحقيق أهدافها: تحرير الأسرى بالقوة، والقضاء على “حماس”، وتهجير الفلسطينيين من وطنهم (الهدف الرئيس)، واحتلال قطاع غزّة واستيطانه وضمّ الضفة الغربية، رغم أنها ألحقت الدمار في قطاع غزّة، الذي قدّم ربع مليون شهيد وجريح ومفقود. بل كشفت الحرب هشاشتها الداخلية، وأضعفت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، من دون أن يعني ذلك أن دولة الاحتلال انهارت أو على وشك الانهيار، لكنّ بقاءها تحت سيطرة المشروع الصهيوني الاستعماري التوسّعي الذي يؤمن بالحروب، ومنطق أن ما لا تحقّقه القوة يحقّقه مزيد من القوة، سيؤدّيان في المستقبل إلى زوالها، خصوصًا أنها ظهرت تابعة للولايات المتحدة، ومعتمدة عليها، ومن دونها ستهزم شرّ هزيمة، وسينعكس هذا لاحقًا على دورها ومكانتها وأهميتها في المشروع الأميركي في المنطقة.

كما فشلت تل أبيب في تحقيق “كيّ الوعي” الفلسطيني، إذ رغم الموت والدمار، تكرّست قناعة واسعة بأن إسرائيل يمكن هزيمتها بالإرادة والإعداد والتنظيم. وعلى المستوى الدولي، مُنيت إسرائيل بخسارةٍ أخلاقية كبرى، بعدما ظهرت أمام العالم دولةً مارقةً تمارس الإبادة والتطهير العرقي، وتحوّلت رمزًا للعنصرية والعنف الاستعماري، بينما باتت فلسطين راية الحرية في العالم كلّه.

السلام كسلعة تجارية في مفهوم الترامبية

ما زالت الشكوك تحوم حول خطة ترامب للسلام، هل ستصمد أم ستنهار؟ أهي خطة حقيقية لسلام فعلي وعادل؟ أم هي محاولة إضافية لتحويل الاحتلال إلى استعمار؟ وما بين هذا وذاك، يتجلّى أمامنا سؤال التدويل وسياقاته ما بين المواقف والأهداف. في هذا الصدد، جدير بنا التمييز بين مطلب التدويل الباحث عن العدالة، ومحاولة استدعاء شكل جديد من أشكال الوصاية كواقع لفرض السيطرة والتحكّم، لتتبدّل مقولة التدويل بهذا المعنى، من موقعها كفضاء لتحصيل الحقوق، إلى وسيلة لإعادة ترسيم شكل الهيمنة بأدوات مختلفة.

فبعيدًا عن تعريف التدويل كمصطلح ومفهوم، وهو تعريف مشروح على نطاق واسع في الفضاء الإلكتروني، لعلّ أخطر ما في الخطة “الترامبية” لا يكمن فيما تقترحه من حلول إجرائية آنية كوقف الحرب أو الإغاثة، بل فيما تُخفيه من نزعة لإعادة تعريف مفاهيم السيادة والحرية ذاتها؛ حيث يبني الرئيس الأميركي سياساته على أطروحات تجارية، تعمل بالضرورة على نقل الصراع من الحقل السياسي إلى السوق، ومن ميدان الحقوق إلى منطق الصفقات، ليبدو “السلام” نفسه سلعة قابلة للتسعير، لا قيمة حقوقية وإنسانية. ما يعني أننا إزاء إعادة إنتاج الاحتلال بآليات أكثر نعومة، ولكنها أشدّ فاعلية، قائمة على ضبط المجال القانوني بدلًا من إعادة النظر في الأصول القانونية لهذا الصراع.

بهذا المعنى، ربما يصبح التدويل مدخلًا لإعادة تعريف القضية الفلسطينية، عبر إعادة ترسيم الجغرافيا السياسة والديمغرافيا، ومن ثم إعادة هندسة الإقليم برمّته، لا لتعديل موازين القوى، بل لترسيخ واقع الهيمنة “الإسرائيلية” باسم الشرعية الدولية. فإنّ واشنطن، التي فشلت في إدارة الصراع الروسي/الأوروبي، تبحث اليوم عن استعادة دورها في الشرق الأوسط، مستندةً إلى “خطة سلام” يُمكنها أن تشكّل غطاء لإعادة تموضع مشاريعها التي تجمع بين الاقتصاد والأمن، وبين التطبيع والضبط، بوصفه الشكل الجديد للسيطرة الناعمة بعد تآكل أدوات الردع الصلبة.

وجهة نظر فلسطينية لمتطلبات المستقبل

في نظرة على متطلبات المرحلة المقبلة في الواقع الفلسطيني يرى الباحث الدكتور هاني المصري “ان الدولة والاستقلال الحقيقي، هما ممكنان بتوفر ثلاثة شروط أساسية. وحدة وطنية فلسطينية في إطار المؤسّسات الشرعية الجامعة، أو على الأقلّ الاتفاق في البداية على إدارة توافقية واحدة مع تعدّدية فكرية وسياسية وحزبية بعيدًا من الهيمنة والإقصاء، إلى حين إجراء انتخابات حرّة ونزيهة، تُحترم نتائجها، ويختار فيها الشعب الفلسطيني طبيعة مشروعه السياسي في المرحلة الجديدة ومن يمثله. ويجب توافر رؤية سياسية واقعية وثورية، تسعى إلى تغيير الواقع، على أساس القناعة بأن فلسطين في مرحلة دفاع استراتيجي، والاتفاق على هدف وطني مباشر قابل للتحقيق، مثل الحفاظ على القضية حيّة، وتستند إلى شكل نضالي مناسب للهدف الوطني (حماية القضية والشعب والاستقلال)، أي المقاومة الشعبية السلمية، وإبراز أهمية إنجاز الحقوق والمقاطعة والعقوبات والمساءلة القانونية لإسرائيل، مع الاحتفاظ بحقّ المقاومة، بجميع أشكالها.

ومن دون تقزيم القضية باحتلال عام 1967، بل ينبغي العمل لإنجاز سلام مستدام من خلال تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقّه بتقرير مصيره، وحلّ قضية اللاجئين، حلًّا عادلًا يتضمّن حقّ العودة والتعويض. وأخيرًا يجب أن يوجد ضغط دولي وإقليمي متواصل يربط إعادة الإعمار والتمويل بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وعاصمتها القدس.

ويخلص الكاتب الفلسطيني الى ان التجربة أثبتت أن المقاومة بلا هدف سياسي جامع وقابل للتحقيق مغامرة، وأن السياسة بلا مقاومة خضوع. وما بين المغامرة والخضوع هناك طريق ثالث، الواقعية الوطنية الثورية، أن نواجه الواقع من أجل تغييره، فإسرائيل، الصغيرة والعاجزة عن تحقيق النصر العسكري الحاسم على غزّة الصغيرة المحاصرة، لا يمكنها قيادة المنطقة، ما يضع مشروع إدارة الرئيس ترامب على طريق الفشل، ويمكن أن تتولّد مستقبلاً فرصة فلسطينية جديدة لإفشاله، بشرط أن تجدّد الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها لصالح شعبها، وليس إصلاحًا يستجيب لشروط معادية تريدها أن تقبل السردية الصهيونية، أو أن تولد حركة وطنية جديدة، فتمتلك القيادة الفلسطينية مشروعًا موحّدًا، وسعيًا وحكمة وجرأة سياسية، تستثمر المتغيّرات الإقليمية والعالمية بدل الارتهان لها.

ما بين الاعتراف بالهزيمة وادعاء النصر

عندما يوضع المرء في خانة قبول الهزيمة حتى ولو من باب التقييم والبحث، لن يكون أمامه من مناص سوى قبول كل ما يرد تحت عنوان المقاومة بلا جدل ولا نقاش، للهرب من هذه “التهمة”. بيد أننا نعتقد ان مثل هذا الطرح الثنائي ليس مخطئا وحسب بل هو ربما يكون خطرا ايضا.

مشكلة ثنائية ” المقاومة والهزيمة” انها تُسقط بالضربة القاضية اي تفكير نقدي: فلا أبحاث معمقة حول المضاعفات الهائلة للعناصر التكنولوجية الجديدة التي ادخلتها اسرائيل الى المجابهة، والتي كرّست واقعا وفعلا نمط الحرب الهجينة السيبرانية – التقليدية الجديدة، والتي نرى الآن مفاعيلها الضخمة في حرب أوكرانيا وقبلها في حرب اذربيحان – أرمينيا؛ لا بل رأينا مضاعفاتها ايضا في الحرب الجوية – الاستخبارية (المعتمدة على السيبرانية) في الهجوم الاسرائيلي على طهران.

ونتساءل هنا، كم عدد الدراسات التي صدرت في لبنان او في المنطقة للتدقيق في هذا التطور الذي سيغيّر بشكل راديكالي مفهوم الحرب ومعها مفهوم المقاومة العسكرية المستندة الى حرب الغوار (اضرب واختبىء)، خاصة وان هذا الانقلاب يترافق مع التدمير الشامل والابادة العرقية للبحيرة التي تسبح فيها سمكة المقاومة وهي بيئتها الشعبية. كما حدث على نحو مطلق في غزة ونسبيا في جنوب لبنان والضاحية؟

وكذلك فالمشكلة الفكرية الرئيس الأخرى في ثنائية المقاومة الهزيمة، هي انها تقفز سواء عن وعي او لاوعي الى القناعة بأن ما جرى هو في الواقع انتصار. ونحن هنا لا نتحدث عن الأساطير الدينية المتفشية الآن في صفوف بيئة المقاومة حول دخول الملائكة في الحرب (أحد المشايخ قال ان الله نفسه يشارك في الحرب)، بل حتى ما ورد في مقالات منظري المقاومة أعلاه حول انتصار المقاومة في الجنوب وغزة.

حزب الله والخروج من الدور الإقليمي

في سردية تاريخية قريبة، ثمة سؤال في غاية الاهمية والخطورة يجب ان يطرح هنا والآن: مقاومة حزب الله طيلة العقود الثلاثة الماضية كانت إقليمية الى حد كلي تقريبا: فهو تدخّل بقوة من أسف في الحروب الاهلية في سورية والعراق واليمن، ولعبت صواريخه دورا في توازن القوى بين إيران واسرائيل الى جانب توازن الردع في الجنوب وغزة، لكن، هل هذا الدور الاقليمي الكبير لا زال قائما الآن؟

يجيب الكاتب الدكتور سعد محيو على هذا التساؤل بالقول: إذا ما كان الرد بالنفي، (وهكذا يفترض ان يكون) فيجب ان يعاد النظر بمقولة المقاومة لدى حزب الله ومعناها. بكلمات اوضح، يجب ان تكون مقاومة الحزب من الان فصاعدا مقاومة وطنية من الفها إلى الياء. وحين يفعل ذلك، سيضرب عصفورين بحجر واحد: أولها التلاقي في منتصف الطريق مع الدولة اللبنانية بما تمثله من كل اطياف وطوائف الوطن، وثانيها وأهمها سحب الطائفة اللبنانية الشيعية من فوهة مدفع الصراع الراهن بما يؤدي الى تحويله (الصراع) الى معركة وطنية شاملة.

ويبدو وفق معلومات ليست بالخفية ان حزب الله نفسه يعيد النظر الان في تركيبته التنظيمية – العسكرية استنادا الى نتائج حرب 2023، باتجاه هيكلية تقترب من التنظيمات الشعبية الوطنية وتبتعد عن منظور الجيش النظامي. وسيكون مفيدا ان تترافق خطوات حزب الله هذه مع دراسات فكرية معمقة تبتعد عن سردية الانتصار وتقارب مفهوم المقاومة على نحو جديد يجب ان يتقاطع مع توجه شعوب العالم برمتها إلى بناء مقاومة عالمية شاملة لأعتى ديكتاتورية بيولوجية- تكنولوجية دولية في التاريخ تعمل العولمة النيو- ليبرالية الان على إقامتها بعنف مطلق.

في الخلاصة

في المنظور الجيوسياسي، كل الأمور مرهونة بموقف الإدارة الأميركية؛ تحاول واشنطن إعادة تبوء الموقع الأول في العالم – لا سيما في المشرق – والذي بدأت تفقده أمام صعود المارد الصيني وتحديات دول البريكس، وما نتج من تفلت أنظمة تعتبرها واشنطن حليفة، من الهيمنة الأميركية والاتجاه شرقا، ومد تلك الادارة البساط أمام إسرائيل لتفعل ما تشاء وآخرها الغارة على قلب الدوحة، والأهم من كل ذلك صمود النظام في ايران وفشل الاستهدافات الإسرائيلية والاميركية العسكرية، في مقابل احتضان موسكو وبكين لطهران، ومد النفوذ المعادي لواشنطن الى فنزيلا: كل ذلك سوف يرغم الإدارة الأميركية بالقول لإسرائيل “كفى” وصب الاهتمام لإنجاح وقف النار في غزة لكن من دون القبول بدولة فلسطينية.