سوء إدارة مخاطر الإفراط في الاستدانة، هدر المال العامّ، فشل إدارة مخاطر توظيفات أموال المودعين، إهمال أهمّية إدارة المخاطر في تخزين الموادّ القابلة للانفجار في مرفأ بيروت وغيرها من القضايا كفتح جبهة الإسناد، كلّها أسباب أوصلت لبنان إلى ما هو عليه اليوم. هنا لا بدّ من إعطاء أهمّية لإدارة المخاطر في الدولة. إدارة المخاطر ليست حكراً على مؤسّسات القطاع الخاصّ.

 

في بلدان مثل لبنان، حيث أصبحت الأزمات هي القاعدة وليست الاستثناء، لا يمكن المبالغة في الركون إلى إدارة المخاطر الفعّالة والموثوقة في الحكومة. المخاطرة في هذا السياق ليست مفهوماً مجرّداً. إنّها التجربة الحيّة للمواطنين الذين يواجهون الانهيار الماليّ وعدم الاستقرار السياسي وضغوط العقوبات والصدمات البيئية والبنية التحتيّة الفاشلة. عندما لا تتعامل الحكومة مع المخاطر على أنّها نظام يجب إدارته، فإنّها تصبح رهينة للأحداث بدلاً من أن تكون وكيلاً للاستقرار.

اعتمدت الحكومة اللبنانية لفترة طويلة جدّاً على الارتجال وإصلاحات اللحظة الأخيرة. لم يؤدِّ هذا الموقف التفاعليّ إلّا إلى تعميق انعدام الثقة بين المواطن والدولة وتضخيم تكاليف الأزمات. ما نحتاج إليه بشكل عاجل هو تغيير الثقافة: يجب نسج إدارة المخاطر في الآليّة اليوميّة للحوكمة. إنّه ليس ملحقاً تقنيّاً بل ضرورة سياسية. بالنسبة لحكومة لبنان المعرّض للأزمات، فإنّ تحديد مدى عدم اليقين الذي يمكن أن تتعايش معه البلاد في مجالات مثل الماليّة العامّة والخدمات الأساسيّة والأمن هو أساس الصدقيّة.

وضوح الأدوار

تبدأ الإدارة الفعّالة للمخاطر بوضوح الأدوار. يجب أن يعرف كلّ من الوزراء وكبار موظّفي الخدمة المدنيّة وهيئات الرقابة والتدقيق الداخليّ مكانهم في سلسلة وتسلسل المسؤوليّة. لا يتعلّق الأمر بازدواجيّة البيروقراطية بل بضمان المساءلة وسرعة العمل. ينبغي أن يكون المديرون داخل الوزارات مجهّزين لتمكينهم من تحديد المخاطر في وقت مبكر. يجب أن تدعم وظائف المخاطر الممارسات وتوحيدها في جميع أنحاء الوطن. وينبغي أن توفّر الرقابة المستقلّة ضماناً بأنّ النظام يعمل على النحو المنشود. من دون هذا الهيكل، سيستمرّ لبنان في الانجراف بين الأزمات، من دون أن يحاسَب أحد حقّاً على البصيرة.

تأتي الصدقيّة أيضاً من اعتماد لغة مشتركة في تعريف وتقويم وإدارة المخاطر. تقدّمت الحكومات في أماكن أخرى من خلال تصنيف المخاطر إلى مخاطر داخليّة (Internal Risks) وخارجيّة (External Risks) واستراتيجيّة (Strategic Risks) ومخاطر مشاريع كبرى (Project Risks).

يمكن للبنان أن يفعل الشيء نفسه فيعطي صانعي القرار صورة أوضح لما يمكن السيطرة عليه، وما هو حتميّ، وما هو تحويليّ. على سبيل المثال، يمكن إدارة المخاطر الداخلية، مثل فشل المشتريات أو الاحتيال، من خلال ضوابط أقوى، بينما تتطلّب المخاطر الخارجية مثل العقوبات أو الصدمات المناخيّة تخطيطاً للمرونة.

مراقبة المخاطر الرّئيسة للمشاريع

تتطلّب المخاطر الاستراتيجيّة، مثل فقدان ثقة المواطن أو فشل القرار المصرفيّ، استجابات على مستوى السياسات. ويجب مراقبة المخاطر الرئيسة للمشاريع، من إصلاح الكهرباء إلى إعادة بناء الموانئ، بدقّة لأنّها تحدّد مسار الانتعاش الوطني.

يتطلّب تضمين هذه الممارسات الاتّساق. يجب أن تكون إدارة المخاطر جزءاً من الموازنة العامّة والمشاريع ومداولات مجلس الوزراء. ليست الموازنة العامّة أرقاماً وحسب، بل هي أداة لإدارة اقتصاديّة واجتماعية تعكس أولويّات الدولة في التنمية، توزيع الموارد وتغطية حاجات المجتمع.

في الحالة اللبنانية، الموازنة العامّة لها خصوصيّات مرتبطة بالأزمة الماليّة والاقتصادية الحاليّة. يمكن لسجلّ وطنيّ للمخاطر (Risk Register)، حيّ ويتمّ تحديثه بانتظام، أن يعطي القيادة اللبنانية صورة موحّدة لمواطِن الضعف والأولويّات. هذا من شأنه أن يساعد على مواءمة خيارات السياسة مع الواقع، بدلاً من التفكير بالتمنّي. في الوقت نفسه، يجب أن يتطوّر الإبلاغ عن المخاطر من الأعمال الورقيّة إلى الرؤى الموجّهة نحو القرار: ما الذي تغيّر؟ وأين يرتفع التعرّض؟ وما هي التدخّلات الناجحة؟

الشّفافيّة

تتمتّع الشفافيّة بالقدر ذاته من الأهميّة. يستحقّ المواطنون في لبنان أن يعرفوا ليس فقط المخاطر التي تتعامل معها حكومتهم، لكن أيضاً المقايضات التي تتمّ حين لا تدّعي الحكومة ذات الصدقيّة أنّه يمكن القضاء على المخاطر، أي المخاطر المقبولة، التي يتمّ تخفيفها، والتي تتطلّب مرونة جماعيّة. ومن شأن نشر تحديثات موجزة عن المخاطر الوطنية الكبرى والإجراءات المتّخذة لمعالجتها أن يرسل إشارة قويّة إلى أنّ الحوكمة تتحوّل من الإنكار إلى المسؤوليّة.

بالنسبة للبنان، ليست إدارة المخاطر ذات الصدقيّة ترفاً. إنّها الفرق بين الدولة التي تتعثّر دائماً من انهيار إلى آخر، والدولة التي تتوقّع الصدمات، وتخفّف من الضرر، وترسم مساراً ثابتاً إلى الأمام. الأدوات موجودة، والأطر معروفة. والمطلوب الآن هو الإرادة السياسية لوضع إدارة المخاطر في صميم الحكم. عندئذٍ فقط يمكن للحكومة اللبنانية أن تعيد بناء الثقة التي فقدتها وتبدأ تقديم مواطنيها ليس فقط للبقاء، بل الاستقرار والأمل.