قبل حوالي خمسين عاما قال المعلم كمال جنبلاط “إن الأزمة القائمة في لبنان هي واحدة من سلسلة أزمات تهيأت أسبابها وظروفها منذ تأسيس الكيان اللبناني سنة 1920. هذه الأزمات طرأت نتيجة لأخطاء ارتكبت في الممارسات السياسية لأرباب الحكم والسياسة. والسؤال الآن كيف ستنتهي الأزمة القائمة اليوم ومتى؟ أعصاب الناس عالقة على ما ينشر من أخبار وما يحاك من مشاريع حلول لا ترى النور. ويستمر التعطيل وتتفاقم الأزمة. إن العقل والمنطق وصدق الرؤية والبصيرة تفرض كلها على الجميع العودة إلى ممارسة الدستور كما يقضي بذلك النظام الديمقراطي البرلماني. فالتصرف الاعتباطي الانفعالي الفئوي يفسد القاعدة التي يقوم عليها هذا النظام كما تؤكد ذلك الأفعال اليومية”.
(المرجع من مقال له نشرته جريدة الأنباء في 15-6-1972)
وفي هذا السياق نضيف إن الأحداث التي شهدها لبنان ولا يزال يعاني منها إلى اليوم:
إنه منذ تأسيس الكيان اللبناني يتبيّن أن المكونات الطائفية اللبنانية في ممارساتها السياسية تتناوب على ارتكاب الأخطاء الفاضحة بحق الوطن والمواطنين. وعرقلت قيام الدولة الموحدة والحاضنة للجميع وأدخلت لبنان في أزمات متتالية. والأخطر من تلك الأخطاء هو إصرار مرتكبيها على الإنكار وعدم الاعتراف بارتكابها. وكأن الاعتراف بالخطأ الذي هو فضيلة في الأساس والمبدأ أصبح يشكل تهديدا وجوديا أو خسارة لا تعوض لامتيازات حصل عليها باسم الطائفة على حساب الدولة وانتظام عملها.
هذا التصرف الاستغلالي للطائفية السياسية تحول مع الوقت إلى عرف لا يجوز التخلي عنه تمسك به الجميع. الجميع أخطأ والجميع يرفض الاعتراف بارتكاب الخطأ. وهكذا شهدت الذاكرة الوطنية سلسلة من التجاوزات المسببة للأزمات بدلا من أن تشكل دروسا وعبرا يجب أخذها في الاعتبار للانطلاق في مشروع بناء الدولة دولة المواطنة والعدالة والمساواة لا دولة المحاصصات الشخصية أو الحزبية أو الفئوية المذهبية.
من حيث المبدأ تأسس الكيان اللبناني على أساس التعددية وقبول الآخر والمشاركة الحرة والولاء الوطني واحترام القوانين والانفتاح على الخارج والتعامل معه على أساس الندية والاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الآخرين الداخلية. وفي واقع الأمور مارست المكونات اللبنانية في التعامل مع الآخرين أسلوب التكاذب المشترك وقول الشيء وعمل عكسه والسعي لتحقيق مكاسب بإسم الطائفة على حساب المكونات الأخرى والتنازع على الحصص والإدعاء بأن كل مكون وحده هو حامي الطائفة وحامي الكيان وخسارته لمكتسباته خسارة للكيان و الاستقواء على الآخرين يسعى للارتباط بقوة خارجية أقليمية او دولية يستقوي بها على شركائه في الوطن يقدم ولائه لها على ولائه للوطن .
من هنا فشل مختلف محاولات بناء الدولة الحقيقية الجامعة والحامية والراعية والعادلة في لبنان فلا الميثاق الوطني الذي قام على أساسه الاستقلال احترمه السياسيون ولا الانتفاضات والثورات أعطت ثمارها ولا العقد الاجتماعي المتفق عليه في مؤتمر الطائف سنة 1989 والذي تحول إلى دستور وخريطة طريق لبناء الدولة المدنية في لبنان وصل إلى غايته بل على العكس الانقسام والاقتتال والاستقواء بالخارج على الشركاء في الداخل تفاقم واستجر التدخلات الخارجية والاحتلالات والوصايات والهيمنات ووصل لبنان إلى ما يعانيه اليوم : عدوان اسرائيلي مدمر ومعطل يهدد الكيان بالزوال . انقسام داخلي حاد يهدد باقتتال طائفي يمزق الوطن مجهول النتائج والعهد الجديد الواعد بالاصلاح والانقاذ يكافح لانجاح تعهداته باقامة الدولة السيدة التي تحتكر قرارات السلم والحرب وتتمسك بحصرية السلاح في القوى المسلحة الشرعية ، والساعية لإقامة افضل العلاقات مع العرب والاصدقاء بهدف المساعدة على اخراج لبنان من ازمته الوجودية ، والانطلاق في الاعمار وتحقيق الازدهار لم يتيسر له النجاح حتى اليوم ، يعاني من الشروط والوعود والضغوط.
على ضوء كل ما هو حاصل من مخاطر وملابسات وتعطلات نقول لبنان في مأزق وجودي وللخروج من معاناته لا يحتاج الى وصفات ومشاريع حلول خارجية معظمها مشبوهة الاهداف ولا تخدم لبنان بل الى يقظة ضمير وجرأة من مكوناته السياسية. انطلاقا من دروس تجارب الماضي يتناسى الجميع كل ما هو شخصي او حزبي او طائفي ومذهبي موال لهذا الطرف او ذاك في الاقليم او العالم ، ويواجه الحقيقة كما هي : الاعتراف بما ارتكب من اخطاء والاقلاع عن المطالب الفئوية المهددة لوحدة اللبنانيين ومستقبل بلدهم والتلاقي على تسوية وطنية شاملة لا تستثني احدا ولا تعزل اي طرف تؤسس لشراكة حقيقية تنقذ لبنان مما يحاك له من مؤامرات خارجية مدمرة والا فالانزلاق من جديد في الدوامة الجهنمية التي تنتج الازمات بالوجوه ذاتها وبالشعارات ذاتها . لبنان وطن للجميع بالعدل والمساواة والشراكة الحقيقية ولا احد اكبر من وطنه.