يقارن عدد من المعلّقين بين وضع “حماس” ووضع “الحزب”، معتبرين أنّ المشكلة اللبنانيّة مع “الحزب” أسهل حلّاً. والحقيقة أنّ “الحزب” يمكنه أن يتوقّف عن مهاجمة إسرائيل ويحتفظ بسلاحه مسلَّطاً على رؤوس اللبنانيّين. فحين يبتعد “الحزب” عن مناطق جنوب الليطاني وشماله وسفوح جبل الشيخ التي تحتلّها إسرائيل، تنتهي مشكلته معها. وأمّا نحن اللبنانيّين فسيبقى “الحزب” حاضراً في مدننا بسلاحه وهيمنته، وربّما أيضاً بتجارته بالمخدّرات. والأخطر أنّ السلطات وأصحاب القرار في لبنان يسلّمون بالأمر الواقع، إمّا تواطؤاً وإمّا جبناً.

 

توافق عدد من المعلّقين اللبنانيّين، من معارضي سلاح “الحزب” ومؤيّديه، على أنّ مشكلة لبنان مع “الحزب” وسلاحه وإسرائيل أبسط بكثير من مأساة غزّة و”حماس”. ولستُ من القائلين بهذا الرأي. فالجميع يدرك أنّ مأساة غزّة وحرب الإبادة التي تتعرّض لها لا يمكن الاستهانة بها أو مقارنتها بغيرها. وأيّاً تكن خلافاتنا مع إسرائيل أو مع “الحزب”، فلن تبلغ هول ما تعانيه غزّة. لكنّني أزعم مع ذلك أنّ الوضع اللبناني مع “الحزب” وسلاحه لا يقلّ صعوبةً من حيث إمكان الوصول إلى حلّ أو مخرج. ولننتقل إلى التفصيل:

 

التّمدّد والسّيطرة

 

الأمر الأوّل: مشكلتنا نحن اللبنانيّين والسوريّين مع “الحزب” وسلاحه لا تقلّ خطورة عن مشكلة إسرائيل معه، بل ربّما أشدّ. فمنذ مطلع تسعينيّات القرن الماضي حتّى العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، تسبّب “الحزب” في مقتل عشرات الآلاف من اللبنانيّين والسوريّين، واستولى على مؤسّسات الدولة في لبنان لعقود، وبسط نفوذه في سورية على مساحات شاسعة من الحدود مع لبنان والعراق، وأنشأ بالتعاون مع إيران مئات الحسينيّات والجامعات والمعاهد الدينيّة لنشر المذهب الشيعيّ.

 

في بداياته، رفع “الحزب” شعار المظلوميّة التاريخيّة والاستعداد للمقاومة، ثمّ ما لبث أن حظي بالدعم السوريّ بعد الإيراني، فبدأ يتغلغل في مؤسّسات الدولة الأمنيّة والعسكريّة والإداريّة حتّى سيطر على القرار فيها. احتفظ بالهيمنة على مناطق الكثرة الشيعيّة، وتمدّد إلى مناطق الاختلاط والكثرة السنّية، وفرض سيطرته على المرافق الحسّاسة كمرفأ بيروت والمطار. وبعد عام 2006، تحوّل التحالف مع ميشال عون وجبران باسيل إلى شراكة في تقاسم النفوذ، وانتهت مرحلة “المقاومة” الفعليّة بعد أحداث بيروت والاغتيالات السياسيّة والقمصان السود. ما تزال تلك السيطرة مستمرّة، والشراكة السياسية قائمة حتّى اليوم.

 

هكذا تحوّل النزاع من خلافٍ طائفيّ على تقاسم الدولة إلى استيلاءٍ فئويٍّ كامل. واليوم، عندما يخرج البعض للحديث عن “عهد جديد” و”دولة جديدة”، فعليهم أن يقدّموا الدليل، إذ لا مؤشّرات واقعيّة إلى ذلك، بل إنّ الوقائع اليوميّة تدلّ على استمرار النهج ذاته واستمرار السيطرة.

 

ربحٌ بدون خسارة؟

 

الأمر الثاني: ما الذي تريده إسرائيل من “الحزب”؟ إنّها ببساطة تريد منه ألّا يهاجمها. وهذا يمكن تحقيقه بتنفيذ القرار الدولي 1701 ومقتضيات وقف النار لعام 2024. وقد ترضى إسرائيل بإبعاد سلاح “الحزب” عن مناطق جنوب الليطاني وشماله، وعن السفوح الجبلية المحاذية للحدود اللبنانية-السورية التي تحتلّ أعاليها الآن.

 

من هنا، مشكلة إسرائيل مع سلاح “الحزب” قابلة للحلّ، وربّما قريباً، بينما مشكلتنا نحن اللبنانيّين معه مستعصية، لأنّ حلّها لا يكون إلّا بتسلّم الجيش اللبناني كلّ السلاح، وهو أمر لن يحدث إلّا جزئيّاً في الجنوب. وبالتالي ستبقى أرضنا وإرادتنا الوطنيّة رهينتين، وستظلّ سلطاتنا تشكر “الحزب” لأنّه أشركها في الحكم والتفاوض، كما اعتاد المتسلّطون فعل ذلك مع السوريّين سابقاً، ثمّ مع “الحزب” في التفاوض على الحدود البحريّة.

 

الأمر الثالث: سلاح “الحزب” إيرانيّ، وقراراته أيضاً. وقد أدركت إسرائيل والولايات المتّحدة هذه الحقيقة، ولذلك استهدفتا إيران باعتبارها مصدر السلاح والقرار، ولأنّ لهما معها مشكلات أخرى. وهناك من يرى أنّ النظام الإيرانيّ في النهاية سيضطرّ إلى التراجع أو التسليم. لكن حتّى لو حصل ذلك، وكفّت إيران عن استخدام “الحزب” ضدّ إسرائيل، فلن يعني ذلك بالضرورة أنّنا في لبنان سنرتاح من سطوة “الحزب”. فالميليشيا الإيرانيّة نجحت في السيطرة على الدولة بالسلاح أو بوهجه أو بكليهما، لكنّها فشلت في مواجهة إسرائيل. لذلك تربح كثيراً دون أن تخسر شيئاً إن هي جاورت إسرائيل وسالمتها، وبقيت مهيمنة علينا من العاصمة إلى سائر المحافظات، كما حدث خلال العقدين الماضيين.

 

أين النزاهة والشجاعة؟

 

الأمر الرابع: لقد اعتادت أجهزة الدولة اللبنانية الخضوع لسلطة الميليشيا وغضّ الطرف عن تجاوزاتها، سواء في المرفأ أو المطار أو في تجارة الممنوعات الضخمة. نسمع اليوم أنّ تغييرات حصلت في الجمارك وأمن المطار، لكنّ الوقائع لا تؤكّد ذلك، بدليل ما حدث أخيراً في المطار مع الشيخ المعارض لـ”الحزب” عبّاس يزبك، وما يُشاع عن استمرار التهريب والاستقبال عبر المرفأ.

 

في المقابل، تشهد بعض المناطق في بعلبك واليمّونة اشتباكاتٍ قيل إنّها لمكافحة المخدّرات، فهل يعني ذلك أنّ الأمور تتحسّن فعلاً؟

 

الحقيقة أنّ الاضطراب الحاصل في شبكات التهريب ليس ناتجاً عن قوّة الدولة في مواجهة “الحزب”، بل بسبب ضعف الإيرانيّين و”الحزب” في سورية. فقد أعلن الإسرائيليّون الذين يسيطرون الآن على قمم جبل الشيخ أنّهم رصدوا تهريب أسلحة من سورية إلى لبنان عبر شبكات تابعة لـ”الحزب” وإيران. لذلك لا بدّ من التدقيق في هذه المسألة، خصوصاً أنّ حرّاس الحدود والمرافئ والمطار هم أنفسهم كما في عهد السيّد حسن نصرالله.

 

الأمر الخامس: لكي نكون واضحين، قال النائب محمّد رعد إنّ “المقاومة قوّة للمجتمع والدولة وليست عبئاً عليهما”! فأين هو الدليل على ذلك؟ ما نراه أنّ ما يُسمّى “المقاومة” هو تنظيم طائفيّ يحتكر القرار الوطنيّ. وربّما تنتهي مواجهته مع إسرائيل بتسوياتٍ أو اتّفاقات، لكنّ اللبنانيّين سيظلّون خاضعين لسلطته وسط تواطؤ الدولة أو جُبنها، وهي حالٌ لم تتبدّل منذ عقود. وهذا هو مغزى القول إنّ المشهد ليس سهلاً، وإنّ العواقب مخيفة، لا بسبب السلاح وحده، بل بسبب ضآلة النزاهة والشجاعة.