تحتدم المنافسة الأميركية من جهة والسعودية والفرنسيّة من جهة أخرى على موضوع “حلّ الدولتين”. تشعر واشنطن بانقلاب الموقف الدولي بخصوص ولادة الدولة الفلسطينية، وتغيّر المزاج العالميّ لأحقّيّتها. طرأ تبدّل كبير مع سطوع فجر إعلان نيويورك، لأن ما قبله لن يكون كما بعده. لكن لن توفّر الدبلوماسيّة الأميركيّة، بالوكالة عن الكيان الإسرائيليّ، أيّ جهد لمحاربته بين حدّين: يتبلور الأدنى في التقليل من قيمة المبادرة، فيما يتشكّل الأقصى في تفشيلها وإغراقها بالعراقيل.

 

الإدارة الأميركية العميقة تؤسس مع إسرائيل لحلّ الدول الثلاث (يقوم على ترحيل الفلسطينيين إلى مصر والأردن وقيام دولة واحدة هي إسرائيل). بوجه حلّ الدولتين. فُتحت أبواب مناقشته في أروقة المؤسّسات الأميركية المتحكّمة. تسلك أميركا الطريق المعاكس بخصوص الحقّ الفلسطينيّ ومصلحة حلفائها العرب. تقف في وجه الإجماع الأمميّ غير المسبوق. لا ترى إدارتها سوى تحقيق منفعات الرؤى الإسرائيلية. وهو ما سيقودها إلى مزيد من العزلة والحرج الدبلوماسيّ، في خطوات من شأنها خلق مشكلة ثقة مع شركائها، وتفقدها العديد من السمات.

فيما تستمرّ إسرائيل في إجرامها وغلوّها وعلوّها في القتل والانتهاكات، تشدّ أميركا إلى الخلوة والسلوك نفسيهما، في كلّ مرّة تتوسّع فيها رقعة استهدافاتها. هل يتحوّل إعلان نيويورك إلى قرار تنفيذيّ؟

واشنطن تواجه نيويورك

تعتزم إدارة دونالد ترامب مجابهة إعلان نيويورك والمثلّث السعوديّ والفرنسيّ والأمميّ، الذي يرسم تصاميم هندسة سياسية معاكسة لمواجهة هيكلة أميركية إسرائيلية وحتّى إيرانية. لم تحضر طهران جلسة التصويت التاريخية في الجمعية العمومية.

تمهّد واشنطن من خلال شراكتها غير المحدودة مع الكيان الإسرائيلي والتلاقي الاستراتيجي العريض والعميق مع النظام الإيراني لإعادة صياغة قواعد اللعبة الجيوسياسيّة لمصلحتها الإسرائيلية من جديد في المنطقة. تشيطن فكرة حلّ الدولتين وتحارب إعلان نيويورك ومؤتمراته. ويدفن العقل الإسرائيليّ مفهوم الحقّ الفلسطينيّ في تكوينه.

تحارب إيران نظريّة الخطوات الشرعيّة العربيّة والفلسطينيّة. لا تريد وجوداً لأيّ شرعية رسميّة عربيّة لأنّه يبعدها عن استثماراتها في القضيّة الفلسطينية الأمّ بطريقة غير شرعية، ويقصيها عن العبث في المنطقة العربية بصيغة موازية. وهو ما تريده أميركا في الجوهر وعلى حساب المصلحة العربية والفلسطينية. لذا تعتبر بقاء نظام إيران أداة موازنة، ومفيدة لها في مواجهة الشرعيّات العربية عند الحاجة.

سوار البارود

تمكّنت إيران عبر وكلائها العرب، وفي حركة الخطوة الأولى من “حماس”، من تطبيق استراتيجية “سوار البارود”، وهي خطّة ولاية الفقيه الخارجيّة. هدفت منها إلى أمرين:

– الأول: قطع الطريق أمام حلول الشرعية العربية محل الشرعية الدولية، وتفتيت كلّ ظروف حلّ الدولتين. تلتقي إيران هنا مع كلّ من الإسرائيليّ والأميركيّ، بالإضافة إلى الرؤية الحمساويّة التي لا تفيد سوى إسرائيل.

 

– الثاني: استعمال الأقاليم العربية لمصلحة إيران ودفاعاً عنها، واعتمادها أوراق ضمانة واستثمار لها في التحارب والتفاوض والحلول المرتقبة وإضعاف الكتلة العربية، لا سيما المحيطة بفلسطين المحتلّة. وهو ما تتّفق عليه أيضاً مع الأميركيّ والإسرائيليّ وحتّى مع حركة “حماس” التي لا تؤمن بالحدود والدول والتقسيمات الإداريّة في الأصل على الرغم من كلّ التلوينات.

أفصح العديد من السياسيّين الإسرائيليّين عن دعمهم مشروع إسرائيل الكبرى. إنّه مبدأ قديم وغير شرعيّ يعارض كلّ المواثيق والقرارات الدولية الصادرة بخصوص القضيّة الفلسطينية، وترجع به الظروف إلى انطلاقة فكرة الدولة العبريّة واليهوديّة الحديثة.

تمسّك العرب أكثر بالشرعيّة الأمميّة، وتابع الزعماء العرب مع مروحة كبيرة من الحلفاء الدوليّين الضغط لوضع مشروع حلّ الدولتين الراسخ على دربه الصحيح. لكن عندما قرّر العرب سلوك طريق السلام واجهتهم إسرائيل بالنقيض عبر إضعاف السلطة الفلسطينية. زادت من مطامع قضمها للضفّة الغربية وإحكام السيادة عليها، راغبة بالعودة إلى ما قبل أوسلو.

تسعى إسرائيل إلى العبور من مرحلة السلطة الفلسطينية إلى مرحلة “اللاشيء الفلسطينيّ”. فيما تسعى الدول العربية ومعها العديد من بلدان المنظومة الأمميّة إلى التحوّل من السلطة إلى الدولة الفلسطينية. ويعي كثر في الشرق والغرب تحقُّق متغيّرات بخصوص القضيّة الفلسطينية عربيّاً وأمميّاً، حيث اختفت النظرة القديمة للصراع ولم تعد موجودة، وساهمت في ذلك ثلاثة عوامل:

1- فشل مرحلة المواجهة العسكرية المباشرة في كلّ الحروب الرسمية العربيّة ضدّ إسرائيل.

2- رتابة مسيرة الضياع الدبلوماسي العربي والدولي في ما يخصّ عمليّة السلام.

3- تغيّر أميركا وتبدّل أوروبا وخروج التنّين الصينيّ من القمقم، إضافة إلى ظهور المتحوِّل الروسيّ الجديد.

ترويج أفكار أميركيّة

يسوّق الرئيس الأميركي للنهاية التقنيّة لرؤية الدولتين. لا تحتاج إسرائيل إلى ذريعة في ذلك. لكنّها استُعملت أحداث السابع من أكتوبر في حجتها. قدّمتها حركة “حماس” هديّة إيرانيّة للإدارة الأميركيّة وللحكومة اليمينيّة المجرمة في الكيان الإسرائيليّ. فتحت لهم باب الدعوة إلى حلّ الدول الثلاث الذي يرجع من خلاله قطاع غزّة إلى الإدارة المصريّة، فيما تتسلّم كلّ من المملكة الأردنيّة والكيان الإسرائيليّ تنسيق إنهاء مشاكل الحدود ومختلف قضايا الأمن في (منطقة) الضفّة الغربية.

لا تعير أميركا أهمّية لمن يستحوذ أو يشرف على غزّة. لا مشكلة لديها في أن يكون مصر أو الكيان الإسرائيلي. ذلك أنّ مشكلتها الأساسيّة في كيفيّة القضاء الحقيقيّ على تهديد “حماس”. وتدرس احتمال الترحيل الجزئيّ من أجل تحقيق خفض جزئيّ أو حتّى كلّيّ في عدد سكّان غزّة.

شرعيّة ترامب وشرعيّة “الحزب

يبتدع ترامب شرعيّته الخاصّة، ويضعها بمواجهة الشرعية والأكثريّة الأمميّة. يشبه في هذه الحالة تفنّن “الحزب” في لبنان في تفسير الميثاقيّة الخاصّة به وفرضها على الأكثريّة اللبنانيّة. تسوّق إسرائيل سرديّةَ يهوديّةِ الجغرافيا الفلسطينيّة، وتتحاذق إيران في تقيّة ثورتها.

تريد كلّ من واشنطن وطهران وتل أبيب تفريغ “إعلان نيويورك” من قيمته الإنشائيّة الملزمة اتّفاقاً، حتّى لو كان في عمقه قرار إعلان غير ملزم. لكنّه يملك كلّ الصفات النظاميّة الدوليّة. ويحصّن مشروعيّة قضيّة الشعب الفلسطيني التي لا تسقط مع تقادم السنين في ما يتّصل بأحقّيّة الحصول على دولته المستقلّة. يعتبر مشروع حلّ الدولتين الممرّ الوحيد لتكريس السلام العادل والشامل، وإغلاق آخر قضيّة احتلال معاصرة.

هو أمرٌ مناقض لمشروع الدول الثلاث الذي يفتقر إلى القبول الأمميّ والمبشّر بابتلاع فلسطين وينذر بالعزلة والمآسي، ويعتمد على كلّ من الأردن ومصر، وهما ترفضانه وتواجهانه. إنّهما من الدول المحاربة لتكريس حلّ الدولتين من بوّابة المبادرة العربية.

يمثّل الإعلان خارطة طريق وحيدة لتحقيق السلام من رحم حلّ الدولتين والمبادرة العربية. سُطّر في متنه التزامات رئيسة مهمّة. تخرج مكتسباته عن كلّ الأنساق التاريخية لصراع المنطقة التقليدي، وتختلف في جوهرها عن أوسلو ومدريد، وتكمل وتصحّح المبادرة العربية المؤسّسة.

يضع الإعلان جدولة زمنيّة مقيِّدة ومفصّلة للبنود المتدرّجة. يحتاج إثبات صدقيّته إلى بلورة للخطوات التنفيذية في عملية سلام فعليّة ترتكز على مرجعيّة الشرعيّتين الدوليّة والعربية. لا يوجد حلّ شرعيّ إلا بالشرعيّة، وحلّ الدولتين مدخله. هل يدخل هذا الإعلانُ التاريخَ من أوسع الأبواب بانتزاعه الدولة الفلسطينيّة؟