يمثل الاعتراف بالدولة الفلسطينية خطوة قانونية وسياسية بالغة الأهمية، إذ يعد في جوهره إقرارًا بشرعية الوجود الفلسطيني كدولة قائمة ومستقلة. فالاعتراف ليس مجرد إجراء دبلوماسي، بل هو إجراء قانوني يترجم القبول الدولي بتمتع فلسطين بمقومات الدولة وفق قواعد القانون الدولي العام، وخاصة اتفاقية مونتفيديو لعام 1933، والتي تتطلب وجود إقليم محدد، وسكان دائمين، وحكومة فعالة، والقدرة على الدخول في علاقات مع الدول الأخرى. ومن ثم، فإن تراكم هذه الاعترافات يعكس إدراكًا متزايدًا من الجماعة الدولية بأن الدولة الفلسطينية كيان يستوفي الأركان الموضوعية لقيام الدولة.
ويستند الاعتراف بالدولة الفلسطينية في القانون الدولي إلى عدد من المواثيق والقرارات القانونية الدولية الراسخة، منها ميثاق الأمم المتحدة الذي نص في المادتين 1(2)، (55)، على حق الشعوب في تقرير مصيرها، ذلك الحق الذي يعد قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي الآمرة، وبمقتضاه يحق للشعوب تحديد وضعها السياسي بحرية تامة ودون تدخل خارجي، بما في ذلك الحق في إقامة دولة مستقلة. وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة – غير مرة- على هذا الحق للشعب الفلسطيني، لا سيما في قرارها رقم 3236 (1974) الذي اعترف بالحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، بما في ذلك الحق في تقرير المصير والاستقلال والسيادة الوطنية. كذلك، شددت محكمة العدل الدولية على هذا الحق في فتواها بشأن مدى مشروعية بناء الجدار العازل في الأراضي الفلسطينية لعام 2004، وفتواها بشأن الآثار القانونية الناشئة عن ممارسات وسياسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية 2024.
الجمعية العامة للأمم المتحدة ودعم الاعتراف بالدولة الفلسطينية
لا يخفى أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية في القانون الدولي يستند إلى عدد من المواثيق والقرارات القانونية الدولية الراسخة، منها ميثاق الأمم المتحدة الذي نص في المادتين 1(2)، (55)، على حق الشعوب في تقرير مصيرها. كما يستند الأساس القانوني للاعتراف بفلسطين إلى العديد من القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، خاصة قرار الجمعية العامة رقم 181 لعام 1947، المعروف بقرار التقسيم، إذ يمثل نقطة انطلاق تاريخية وقانونية لإقامة دولتين في فلسطين، وقرار الجمعية العامة رقم 67/19 لعام 2012 بمنح فلسطين صفة “دولة مراقب غير عضو” في الأمم المتحدة، والذي يمثل اعترافًا ضمنيًا بمكانتها ككيان دولي. وكذلك، القرار (دإط10/23) الذي اعتمدته للجمعية العامة في 10 مايو 2024، بأغلبية (143) صوتًا، وقد طالبت بموجبه بضرورة دعم طلب فلسطين للحصول على عضوية كاملة بالأمم المتحدة، وأوصت مجلس الأمن بإعادة النظر في هذا الطلب. وقد تضمنت وثيقة القرار مُرفقًا يحدد طرق إعمال الحقوق والامتيازات الإضافية المتعلقة بمشاركة دولة فلسطين، اعتبارًا من الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة، من بينها:
– الحق في الجلوس بين الدول الأعضاء حسب الترتيب الأبجدي.
– حق التسجيل في قائمة المتحدثين في إطار بنود جدول الأعمال، غير البنود المتعلقة بقضيتي فلسطين والشرق الأوسط.
– الحق في الإدلاء ببيانات باسم مجموعة ما، بما في ذلك إلى جانب ممثلي المجموعات الرئيسية.
– الحق في تقديم، والمشاركة في تقديم، مقترحات وتعديلات وعرضها، بما في ذلك باسم مجموعة ما.
– الحق في تقديم تعديلات للتصويت باسم الدول الأعضاء في مجموعة ما.
– حق الرد فيما يتعلق بمواقف مجموعة ما.
علاوة على ذلك، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان نيويورك بشأن تسوية قضية فلسطين بالوسائل السلمية وحل الدولتين في 12 سبتمبر 2025، وهو ما شكل محطة هامة في مسار القضية الفلسطينية، إذ جاء ليعيد التأكيد على أن الجماعة الدولية لا تزال ترى في حل الدولتين الإطار الأكثر مشروعية وعدالة لإنهاء الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي. فلقد كشف هذا الإعلان الذي صوتت عليه الجمعية العامة بأغلبية ساحقة، عن اتساع دائرة الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، وكشف- كذلك- عن الموقف الدولي الرافض لاستمرار الاحتلال والتوسع الاستيطاني، الذي بات يشكل تهديدًا للأمن والاستقرار الإقليمي والدولي على حد سواء. ومما هو جدير بالملاحظة، أن هذا الإعلان كان نتاجًا للمؤتمر الدولي رفيع المستوى الذي عُقد في المقر الرئيسي للأمم المتحدة بنيويورك برئاسة مشتركة من المملكة العربية السعودية وفرنسا في يوليو 2025، حول “التسوية السلمية لقضية فلسطين وتطبيق حل الدولتين”، وقد تضمن أبعادًا عملية واضحة؛ فقد دعا إلى وقف الحرب في غزة، ونقل إدارة القطاع إلى السلطة الفلسطينية، وتفعيل حل الدولتين لتحقيق السلام والاستقرار والتكامل الإقليمي من أجل مصلحة كل شعوب المنطقة، وتوحيد قطاع غزة مع الضفة الغربية، وإنشاء لجنة إدارية تعمل في غزة تحت مظلة السلطة الفلسطينية لفترة مؤقتة وقصيرة. والحق، إن هذا الطرح يمنح الفلسطينيين مظلة حماية جديدة على المستوى الدولي، ويقطع الطريق على أي محاولات لفرض حلول بديلة مثل التهجير أو الإدارة العسكرية المباشرة، مما يرسخ بدوره مبدأ ضرورة بقاء الفلسطينيين على أرضهم مع تمتعهم بحقوقهم غير القابلة للتصرف. ذلك أنه حظر بصورة قاطعة لا لبس فيها، مسألة الإبعاد أو التهجير القسري والاستيطان بوصفهما يمثلان انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي. وهذا بطبيعة الحال، يعزز حجج الجانب الفلسطيني في تحريك دعاوى أمام محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية إذا توافرت الشروط اللازمة لذلك، ويشكل هذا بعدًا وقائيًا ضد أي محاولات لتبرير سياسات الاحتلال.
ومن ناحية أخرى، يعيد الإعلان التأكيد على التزامات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بوجوب احترام وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية السابقة ذات الصلة بفلسطين. وهذا يعني، من بين جملة أمور، أن أي دولة تدعم الاحتلال أو تغطي على انتهاكاته قد تصبح عرضة للانتقاد أو حتى الملاحقة القضائية، مما يشكل أداة ضغط قانونية ودبلوماسية يمكن استثمارها لوقف السياسات الإسرائيلية المخالفة للقانون الدولي. إلى جانب ذلك، يحمل الإعلان أهمية خاصة من الناحية الإنسانية، إذ شدد على ضرورة حماية المدنيين الفلسطينيين في غزة، ووقف العمليات العسكرية التي تسببت في خسائر بشرية كارثية بسبب سياسات الحصار والتجويع. ودعم الاستجابة الإنسانية التي تقودها الأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة وضمان إيصال المساعدات بشكل يتلاءم مع القانون الدولي الإنساني، مع ضمان تقيد إسرائيل بالتزاماتها القانونية في هذا الإطار بوصفها السلطة القائمة بالاحتلال، والتي على رأسها السماح بوصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وبدون أي تمييز.
أضف إلى ذلك، أن هذا الإعلان يكتسب أهمية قصوى لأنه يعزز الموقف العربي الرافض للتوطين أو التهجير، من خلال وجود سند أممي واضح يمنع أي محاولات لفرض حلول تتعارض مع الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني. علاوة على أن الإعلان يفتح الباب أمام إمكانية توسيع التعاون الإقليمي لإحياء مبادرة السلام العربية، وتعزيز دور مصر كوسيط مركزي في هذه القضية. فهو يمنح القاهرة فرصة لتوظيف ثقلها الدبلوماسي في بناء تحالفات مع القوى الدولية والإقليمية من أجل تحويل هذا الإعلان إلى خطوات عملية، سواء عبر إعادة إعمار غزة أو من خلال الضغط لإحياء المفاوضات على أسس عادلة. ثم إن الإعلان يعيد التأكيد على مكانة الأمم المتحدة كمنصة شرعية للدفاع عن حقوق الشعوب. ورغم أن قرارات الجمعية العامة هي عبارة عن توصيات ليست ملزمة، إلا أن قوة الإجماع الذي تحقق يمنحها قيمة سياسية كبيرة تجعل من الصعب تجاهلها. وهذا يشكل اختبارًا حقيقيًا لمصداقية النظام الدولي وقدرته على فرض احترام القانون والعدالة. كذلك، قد يدفع الإعلان العديد من الدول الغربية المترددة إلى الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، لا سيما في ظل تصاعد الضغوط الشعبية في أوروبا وأمريكا اللاتينية. وهذا من شأنه أن يخلق زخمًا دبلوماسيًا جديدًا، ويزيد من عزلة إسرائيل سياسيًا، ويمنح الفلسطينيين فرصًا أكبر للحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية. وليس أدل على ذلك، من قيام كل من فرنسا، وبريطانيا، وأستراليا، وكندا، بالاعتراف رسميًا بالدولة الفلسطينية. والحق أن أي اعتراف جديد بفلسطين سوف يزيد من الشرعية الدولية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وسوف يقف حائلًا أمام أي محاولات للتهجير القسري أو حتى الطوعي.
التحديات
أدت موجة الاعتراف الدولي بفلسطين إلى تصاعد الحديث عن الخطوات العملية اللازمة لكي تصبح دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، فلا يخفى أن فلسطين كانت قد حصلت على صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة في عام 2012، إلا أن العضوية الكاملة تستلزم توافر مجموعة من الشروط الموضوعية والإجرائية على حد سواء. فأما الشروط الموضوعية فقد نصت عليها المادة الرابعة من ميثاق الأمم المتحدة، وهي: أن تكون الوحدة طالبة العضوية دولة، وأن تكون محبة للسلام، وأن تقبل الالتزامات الواردة في الميثاق، وأن تكون قادرة على تنفيذ تلك الالتزامات. أما الشروط الإجرائية فتتحدد في:
1- أن تقوم الوحدة طالبة العضوية بتقديم طلب رسمي للأمين العام، الذي يقوم بدوره بفحصه للتأكد من توافر الشروط الموضوعية؛
2- رفع الطلب إلى مجلس الأمن الدولي الذي يتعين أن يصوت عليه بالأغلبية الموصوفة (عدم اعتراض دولة من الدولة دائمة العضوية التي تملك حق الفيتو)؛
3- صدور توصية من مجلس الأمن بالأغلبية المطلوبة ورفع التوصية للجمعية العامة التي تصوت عليها بأغلبية الثلين.
وبذا، يتضح أن العائق الأكبر أمام العضوية التامة للدولة الفلسطينية يتمثل في استخدام أحد الأعضاء الدائمين للفيتو في مجلس الأمن مما يحول دون صدور التوصية اللازمة. غير أنه يمكن للدول الداعمة للقضية الفلسطينية في هذه الحالة أن تلجأ إلى الآليات التي تملكها الجمعية العامة مثل “قرار الاتحاد من أجل السلام” الذي قد يسمح بتجاوز عرقلة مجلس الأمن عبر حشد توصيات ملزمة سياسيًا ومؤثرة في بعض الأحيان. كما أن الحشد الإقليمي والثنائي يمكن أن يُحول الفيتو إلى عبء سياسي على الدولة التي استخدمته. كما يعد قيام الجمعية العامة للأمم المتحدة بطلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية وسيلة فعالة أخرى لتعزيز الشرعية القانونية الدولية، بما يجعل عجز مجلس الأمن غير كافٍ لوقف مسار التنفيذ في هذه الحالة.
على صعيد آخر، فإن فكرة حل الدولتين قد تواجه معوقات جوهرية على الصعيد الفلسطيني. إذ ما زال الانقسام بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس عقبة أساسية تحول دون بلورة موقف تفاوضي موحد أو تشكيل حكومة واحدة قادرة على تنفيذ أي اتفاق سياسي. وفي المقابل، تواصل إسرائيل سياسة التوسع الاستيطاني وفرض الحقائق على الأرض في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وهو ما يقوض الأساس الجغرافي والسكاني لإقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة.
والحق أن هذه التحديات يمكن التقليل من آثارها من خلال اتخاذ عدد من الخطوات الملموسة، منها على سبيل المثال لا الحصر: قيام الدول الداعمة لفلسطين بممارسة الضغط على إسرائيل من خلال الهيئات الدولية أو عبر فرض جزاءات بصورة انفرادية أو جماعية، كوسيلة لإجبارها على إعادة النظر في سياساتها الخاصة بالقضية الفلسطينية. هذا وقد بدأت بعض الدول في تبني هذا الإجراء بالفعل مثل بعض دول الجنوب العالمي كبوليفيا، وكولومبيا، وإندونيسيا، وماليزيا، ونامبيا، وجنوب أفريقيا، التي وقعت على بيان ختامي صادر عن مؤتمر مجموعة لاهاي لدعم فلسطين في يوليو 2025، فرضت بموجبه تدابير عليها منها وقف تصدير الأسلحة، ومنع السفن المحملة بالأسلحة من المرور عبر موانئها، إلى جانب تعليق بعض الدول الأوروبية توريد الأسلحة، أو تراخيص التصدير لإسرائيل، ومن بين هذه الدول فرنسا، وإسبانيا، والمملكة المتحدة. ومن الخطوات التي قد تكون حاسمة كذلك، تفعيل مقترح فرنسا الذي تقدمت به يوم 22 سبتمبر 2025، لإنشاء قوة دولية لتحقيق الاستقرار في غزة تحل محل الجيش الإسرائيلي، وتعمل على نزع سلاح حماس تدريجيًا بعد وقف القتال وإنتهاء الحرب، فلا شك أن هذا المقترح الهام يعد تطبيقًا مباشرًا لإعلان الأمم المتحدة بشأن التسوية السلمية لقضية فلسطين وحل الدولتين (إعلان نيويورك).
ختامًا، يمثل الاعتراف بدولة فلسطين خطوة أساسية وهامة من جانب الجماعة الدولية، إذ لا يقتصر على منحها صفة الدولة قانونًا، بل يتجاوز ذلك ليعيد صياغة معادلة الشرعية في الصراع العربي- الإسرائيلي. فالاعتراف الدولي بفلسطين يعكس إقرارًا بحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية في الأرض والسيادة، ويضع إسرائيل أمام مسئولياتها القانونية كقوة احتلال وفقًا للقانون الدولي. كما أن تزايد عدد الدول المعترفة يخلق تراكمًا نوعيًا يضغط على القوى الكبرى التي ما زالت ترفض الاعتراف، ويحد من قدرتها على فرض مقاربة أحادية للصراع. فالاعتراف بفلسطين لا يعد مجرد موقف سياسي، بل هو أداة لتصحيح اختلالات عميقة في النظام الدولي، وتجسيد لمبدأ تقرير المصير، وضمانة لتأسيس تسوية قائمة على الشرعية الدولية لا على موازين القوة.