مع الهجوم على مدينة غزة، ضاعف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحدّيه، فيما يتلاشى أي كابح من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
قبل اندلاع الحرب في غزة قبل ما يقارب العامَين، لم يكن نتنياهو معروفاً كمغامر. كان خطابه جريئاً، وأفعاله أقلّ جرأة. لكن الآن، من خلال إرساله الجيش الإسرائيلي إلى مدينة غزة، يبدو أنّه تخلّص من أي قيود.
العملية، التي يزعم أنّها ضرورية لهزيمة «حماس» لكنّها من المؤكّد تزيد عزلة إسرائيل مع تصاعد الغضب الدولي، قتلت العديد من الفلسطينيِّين وأجبرت مئات الآلاف على النزوح جنوباً. إنّها تُعرِّض حياة ما يُقدَّر بـ20 رهينة إسرائيلية على قيد الحياة، للخطر. وتجعل أي وقف لإطلاق النار غير قابل للتصوّر راهناً، وشُكِّك بها حتى من قِبل رئيس أركان جيشه.
حيال كل ذلك، يبدو أنّ ردّ نتنياهو هو: «فليأتِ ما يأتي». هذا الأسبوع، اقترح أن تصبح إسرائيل «سوبر إسبرطة»، في إشارة على ما يبدو إلى دولة المدينة الإغريقية القديمة التي ارتقت من خلال الانضباط لتصبح قوة عسكرية كبرى، وتُلهَم الدولة. متحدّثاً في مؤتمر اقتصادي استضافته وزارة المال، اعتبر فيه أنّ إسرائيل قد تضطرّ إلى مواجهة «العزلة» من خلال «الاكتفاء الذاتي».
ويرى إيتامار رابينوفيتش، السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة: «فَقدَ (نتنياهو) السيطرة. لم تعُد هناك أي خطوط حمراء».
مُداناً من عائلات الرهائن المكلومة، ومواجهاً احتجاجات شعبية واسعة، وواقعاً تحت انتقادات حادة من حلفاء أوروبيِّين غاضبين بسبب قصف غزة الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الفلسطينيِّين، يزداد نتنياهو تحدّياً.
تعهّد بأن «لن تكون هناك دولة فلسطينية». وحتى لو أنّ منع قيامها كان الهدف الأساسي لمسيرته السياسية، فقد أصبح أكثر صراحة مؤخّراً. كان هذا التصريح بمثابة توبيخ لدول من بينها فرنسا، بريطانيا، كندا، وأستراليا التي أعلنت إنّها ستعترف بدولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع المقبل.
ومع ذلك، سيكون من المتهوّر مساواة تفاخر نتنياهو المتزايد والمتهوّر مع سقوط وشيك. فهو لم يجمع ما يقارب 18 عاماً في منصب رئاسة الوزراء، ولم يُصبح الزعيم الأطول خدمة في تاريخ إسرائيل من دون أن يُثبِت نفسه قائداً بارعاً، مرناً، ولا يرحم. «فقط بيبي!» هو الهتاف الذي يُردِّده أنصاره المخلصون، مستخدمين لقبه.
بالنسبة لهم، هو «الملك» الذي لا بديل عنه، الرجل الوحيد الذي يملك الشجاعة لمواجهة أعداء إسرائيل على 7 جبهات. فأدّت تصفيته لقيادة «حزب الله» في لبنان وإضعافه لطموحات إيران النووية عبر حرب قصيرة، إلى أحاديث في المنطقة عن إسرائيل إمبراطورية.
وربما كان أضعف أعدائه هو الأصعب عليه. فهو يبدو مقتنعاً بأنّه قادر على إجبار «حماس» على الاستسلام أو الزوال بالقوة العسكرية وحدها، لكنّه اضطرّ إلى إعادة تعريف مقاربته مرّة تلو الأخرى. أمّا خصومه، الذين يهتفون «أي شيء إلّا بيبي»، فيرَونه مجرّد وجه تدنيس الديمقراطية الإسرائيلية.
في هذه اللحظة المتوترة من تاريخ إسرائيل، يمتلك نتنياهو ميزة واضحة: الدعم غير النقدي تقريباً من الرئيس ترامب. عالم ينجرف تحت دفع ترامب نحو اتجاه سلطوي ساعد في ولادة «بيبي بلا قيود». فبات أكثر جرأة لأنّه، أكثر من أي وقت مضى، واثق من أنّ الولايات المتحدة ستدعمه مهما فعل.
ويرى إيهود أولمرت، رئيس الوزراء السابق والناقد الشديد لنتنياهو، أنّ «ترامب هو الشخص الوحيد على وجه الأرض القادر على أن يُملي على بيبي ما يجب أن يفعله. لديه القدرة على إنقاذ آلاف الأرواح». ومع ذلك، من غير الواضح ما إذا كان ترامب سيفعل ذلك يوماً.
وتعتقد دانييلا فايس، القيادية البارزة في حركة المستوطنين التي استمدّت قوّتها ورخصة لا حدود لها لتوسيع مستوطناتها في الضفة الغربية، من هجوم «حماس» المدمِّر في 7 تشرين الأول على إسرائيل الذي أسفر عن مقتل نحو 1200 شخص: «نتنياهو قائد حقيقي، وليس هناك الكثير من القادة في التاريخ بمكانته».
لكن، على رغم من كل دعمه القومي والديني، فإنّ نتنياهو مكروه على نطاق واسع. يعتقد كثيرون أنّه يضع بقاءه السياسي فوق مصلحة الأمة بإطالة أمد حرب غزة التي يؤكّد منتقدوه أنّها كان يجب أن تنتهي منذ وقت طويل.
ترى «إسرائيل الليبرالية»، التي لم تنحنِ على رغم من المدّ اليميني، أنّه يُمزِّق القِيَم الأساسية للدولة وجوهر الأخلاق اليهودية من خلال مواصلة حملة عسكرية لا هوادة فيها، تقتل المدنيِّين الفلسطينيِّين بأعداد كبيرة من دون هدف يمكن تحقيقه. والرهائن الإسرائيليّون يعانون في الأنفاق منذ أكثر من 700 يوم.
واعتبر أولمرت، أنّ «ما يفعله نتنياهو الآن في غزة وحشي بشكل صارخ. كيف يمكن لوزراء في أعلى المناصب أن يقولوا إنّ جميع الغزيِّين هم «حماس» ثم يحشرونهم في مخيّمات؟ نحن في معركة من أجل روح إسرائيل».
أظهر استطلاع أجرته «القناة 12» هذا الشهر، أنّ حزب الليكود بزعامة نتنياهو سيتصدّر أي انتخابات بـ24 مقعداً، لكنّه أشار إلى أنّ أحزاب حكومته اليمينية المتطرّفة ستفشل في الحصول على ما يكفي من المقاعد في الكنيست المكوّن من 120 عضواً لتجديد الائتلاف. ومع ذلك، ومع بقاء أكثر من عام على الانتخابات، فإنّ خيارات نتنياهو السياسية بعيدة من النفاذ.
خلال زيارة استمرّت يومَين هذا الأسبوع لوزير الخارجية ماركو روبيو، لم يظهر أي تلميح للانتقاد الأميركي، حتى بعد محاولة إسرائيل الأخيرة اغتيال قادة «حماس» في قطر، الحليف الأميركي المهمّ. وأكّد روبيو أنّ الولايات المتحدة لا تعوّل على أي صفقة مع «حماس»، واصفاً إياها بأنّها «جماعة إرهابية، جماعة بربرية، مهمّتها المعلنة هي تدمير الدولة اليهودية». يبدو أنّ ترامب يُريد انتهاء الحرب في غزة على الفور، مع إطلاق سراح جميع الرهائن، أحياءً أو أمواتاً، وهزيمة «حماس»، مهما كان ذلك يعني بالتحديد. ما إذا كان ترامب يسعى إلى سلام الدولتَين، وهو موقف معظم الحكومات الأميركية السابقة لعقود، غير واضح، لكنّ معظم تصريحاته تشير إلى العكس.
وبما أنّ تصريحات ترامب بشأن الحرب غير متوقعة وملؤها النفاد من الصبر، لكنّها دائماً متجذّرة في دعم لا يتزعزع لإسرائيل، فإنّ نتنياهو يجد أمامه مساحة واسعة للمناورة.
قبل شهرَين، بدا أنّ نتنياهو يُفكّر بجدّية في صفقة محتملة مع «حماس»، كانت ستشهد إطلاق سراح 10 رهائن إسرائيليِّين أحياء مقابل عدد كبير من الأسرى الفلسطينيِّين ووقف إطلاق نار لمدة 60 يوماً يتمّ خلالها التفاوض على إنهاء الحرب.
ثم ذهب إلى واشنطن، التقى ترامب، غيّر رأيه، وبدأ التخطيط للهجوم على مدينة غزة، بما رافقه من إطالة أمد الحرب وزيادة معاناة الفلسطينيِّين في غزة.
بدا الأمر كخيار مدفوع بغرائز البقاء. فلكون نهاية الحرب تحمل الكثير من المخاطر بالنسبة إلى نتنياهو. هذه المخاطر تشمل تفكّك ائتلافه مع اعتراض وزراء اليمين، تشكيل لجنة تحقيق في كارثة 7 تشرين الأول، محاسبة كاملة على أفعال إسرائيل خلال الحرب، وإنهاء الحماية من متاعبه القانونية الخاصة.
إسرائيل في حالة حرب، وإسرائيل التي يعرضها كأنّها في خطر وجودي واضح، تناسب نتنياهو أكثر. إنّها تلعب على نقاط قوّته التكتيكية. في النهاية، على الأقل من وجهة نظر عائلات الرهائن وأنصارهم الغاضبين، فإنّ بقاءه الشخصي يتفوّق على بقاء الرهائن.
وأكّدت عيناف زانغاوكر، والدة الرهينة ماتان زانغاوكر: «إنّ ماتاني يُضحّى به على مذبح نتنياهو».