مقالات

واقع النزعة إلى الانصهار بعد مئة عام

الخميس 23 تموز 2020

فاديا كيوان


يحق لنا بعد مرور مئة عام، القيام بمراجعة شاملة لما ألت اليه النزعة الى الانصهار الوطني والتي كانت ضمنا، هدفا رئيسيا لمشروع دولة لبنان الكبير.

في مرحلة تشكل الدول الوطنية بعد الحرب العالمية الاولى، وفي ضوء نتائجها وتداعيات تلك النتائج، كانت المجموعات اللبنانية في حالة تجاذب بين السعي الى تشكيل كيانات صغيرة بحجم الطوائف الدينية الموجودة والسعي الى تشكيل كيانات منفتحة على البيئة الاكبر. وبعد مؤتمر فرساي، كان هناك مشروع واحد لأنشاء كيان ذي طابع ديني، هو مشروع الكيان اليهودي والذي التزمت بريطانيا إنذاك، وبموجب صك الانتداب على فلسطين، بالمساعدة على انشائه. وذلك الكيان – foyer national juif, لم يكن يرقى حتى في التسمية، الى مصاف الدولة القومية اليهودية، بل كان يرمي الى الاقرار بحقوق الطائفة اليهودية. هذا اذا تغاضينا عن المشروع الصهيوني، والذي كان يتخطى بأبعاد حدود اسرئيل الحالية، بل انه كان فضفاضا يطيح بالشعوب العربية المحيطة، بوجودها وحقوقها المشروعة.

في هكذا مناخ، كان هناك تسابق بين مشروع الامير فيصل الرامي أنذاك الى تشكيل المملكة العربية المتحدة، على ان يكون جبل لبنان سنجقا يتمتع بخصوصية وبعض الاستقلال الذاتي ضمن تلك المملكة. وبين مطالبة فئة من اللبنانيين، بانشاء لبنان الكبير بحدوده الحالية.

تكتسب صورة الاعلان عن انشاء دولة لبنان الكبير، رمزية كبيرة. كان البطريرك الماروني ومفتي المسلمين في لبنان، يحيطان بالجنرال غورو يوم الاعلان في اول ايلول 1920.

هذا يعني ان دولة لبنان الكبير كانت في رؤية مريديها دولة جامعة للمسيحيين والمسلمين.

يعكس هذا المشهد تناقضا واضحا مع مشروع الكيانات الطائفية والدينية. لكنه كان مشروع دولة ينسجم تدريجيا في اطارها المسيحيون والمسلمون. جاء الميثاق الوطني في العام 1943 ليحدد معالم تلك الدولة وتوجهاتها في العلاقة مع المحيط المباشر ومع العالم الخارجي.

نكثت النخب اللبنانية الحاكمة تباعا بكل الالتزامات والتعهدات التي تضمنها الميثاق الوطني. مع ذلك، وبالرغم من الخمسة عشر عاما من الحرب في لبنان، عاد اتفاق الطائف ليؤكد على وحدة الدولة، ارضا وشعبا ومؤسسات. كذلك حدد اتفاق الطائف السبيل إلى تحقيق الانصهار. بالطبع، استوجبت التطورات السياسية والفكرية في العالم استبدال مفهوم الانصهار بمفهوم الوفاق الوطني، على اساس ان الانصهار كلمة تصلح اكثر للتعبير عن ذوبان الحديد تحت النار واتخاذه اشكالا متعمدة. مشروع الوفاق الوطني اللبناني كان اكثر مرونة واكثر حداثة، اذ وضع سبلا مرنة لبلوغ المزيد من التجانس فيما بين اللبنانيين.

حدد اتفاق الطائف توحيد كتب التربية المدنية والتنشئة الوطنية وكتب التاريخ كوسيلة ناجعة لتحقيق المزيد من الوحدة الوطنية. كذلك نص على ضرورة تنفيذ سياسات الانماء المتوازن بقصد ردم الفجوة بين المناطق اللبنانية والناتجة عن اقتصاد مركزي جدا، محصور بقطاع الخدمات وبالعاصمة.

اين نحن اليوم من مشروع التجانس والوفاق الوطني؟

يتفق المهتمون على ان موضوع التنوع الديني والطائفي والمذهبي هو سمة مكونة للبنان واحدى ميزاته.

لكن هذا التنوع اتخذ مع الوقت ابعادا تتجاوز حرية الايمان والتعبير وممارسة الشعائر الدينية. فقد ظهرت بشكل مواز للشعور بالمواطنية اللبنانية، والذي تجلى بأسمى اشكاله في ثورة 17 تشرين 2019، ظهرت نزعات تباعد وولاءات مزجت بين المذهبية والركون الى محاور خارجية، وصلت الى حد التجاذب بين مرجعيات خارجية، من نمط العيش، الى نمط التفكير وتحديد التوجهات الخارجية لعدة جماعات.

ان الرهان على تحول المجموعات الطائفية والمذهبية الى جماعة وطنية واحدة يختلف اركانها في السياسة اليومية لكنها متفقة على وحدة التوجه ووحدة المصير، هو رهان في مأزق. وهذا المأزق يصيب مشروع الدولة الوطنية بالصميم.

خلنا ان تفاقم الازمة الاقتصادية ومن ثم خناق الدولار على رقاب اللبنانيين سيوحدهم في مواجهة منظومة حاكمة فاشلة، وفي وجه فساد متعمشق بالمذهبية ومحمي بمنطق المحاصصة.

لكن الواقع اليوم يعكس ارتباكا في اوساط القوى المريدة للتغيير، في مواجهة منظومة حاكمة منذ مطلع التسعينيات، وهي تتحمل كاملة المسؤولية السياسية عما جرى للبنان، لبنان الدولة ولبنان الشعب.. تتراوح مسؤولية هذه المنظومة بين الحزبية الضيقة والانتهازية والميوعة، والغباء والفساد. يتنازع هذه المنظومة شعوران: شعور بالخوف من الاتهامات فيحاول كل بعض منها رمي المسؤولية على الآخر، وشعور بالتضامن فيما بين مكوناتها في مواجهة الغضب الشعبي الطامح الى التغيير.

لا ينحصر الخيار اليوم بين ان يربح المحور الايراني/ يحدوني على تجديد فعل الايمان بدولة لبنان الكبير، السوري او المحور السعودي/ الاميركي. بل ان هناك خيارا ثالثا يتجاوز المحورين وهو المنادي بالمصلحة اللبنانية العليا فوق كل المحاور، فوق كل المصالح الفئوية. خيار دولة لبنان الكبير، الصغير بحجمه والكبير بمعانيه، هو اليوم على المحك.

المشكلة هي فقط بأن الولاء للبنان من دون الركون الى التحالفات الخارجية يبدو صعب المنال وهو يستوجب طرح مسائل اساسية على طاولة النقاش بين قوى ثورة 17 تشرين، وهي قوى تخترق صفوف الاحزاب والقوى الطائفية.

الحاجة اليوم هي حاجة ماسة لرسم معالم رؤية جديدة تعيد الحياة الى شرايين هذا البلد الممزق وتعيد الامل الى شعبنا المعذب.

وقفة الجردة بعد مئة عام تأخذنا الى خلاصات مؤلمة. فهل ننتحر ام نعود الى الحياة؟

الفرصة سانحة لتشكل جبهة وطنية لأنقاذ لبنان، لبنان الدولة القائمة على احترام حقوق مواطنيها وعلى احترام الحريات العامة والشخصية، دولة مشرقة تخترق ظلمات المشرق. دولة منفتحة ترفع الصوت مدويا في وجه النزعات العنصرية. ان لهكذا دولة رسالة لا يحميها غير استقلالها عن المحاور الخارجية وفك ارتباط نخبها مع الخارج.

ان ركيزة قيام لبنان الكبير هي في خطر. لكن مشروع لبنان الكبير ممكن بل هو حاجة في العالم العربي اليوم، ربما اكثر من اي وقت آخر.

ان ما يحدوني الى تجديد فعل الايمان بدولة لبنان الكبير مجموعة مؤشرات صادفتها مؤخرا واقنعتني ان فكرة لبنان الكبير باتت راسخة في عقول اللبنانيين، كل اللبنانيين. من شعارات ثورة 17 تشرين الى عنفوان هاروت فازليان الذي تفجر بالامس القريب موسيقى في قلعة بعلبك، الى سلاسة وزير الزراعة والثقافة عباس مرتضى الذي صرح يومها بحماس ان هذه الحفلة الموسيقية تأتي للاحتفال بمئوية لبنان الكبير، كذلك لا يغفل عنا كلام وزير الصحة حمد حسن ووداعته في الانتقال من منطقة الى اخرى في لبنان لمحاربة انتشار فيروس كورونا. كان الوزير حسن صادقا في محاولة احتضان كل البلد.

لبنان العميق بات راسخا. انه مرادف للدولة التي انشأها اجدادنا منذ مئة عام، وكانوا حالمين ومتبصرين.

لن ننتحر وسوف نعود الى الحياة وسنحمل هذا الحلم من جديد.


Shares
facebook sharing button
twitter sharing button
messenger sharing button
whatsapp sharing button
sharethis sharing button