مقالات

تذكير لمن يريد ان يتذكر… لعل في الاطلاع افادة| الحلقة الخامسة: الحياد والسياسة الخارجية

الخميس 13 آب 2020

كمال جنبلاط


فيما كانت رابطة اصدقاء كمال جنبلاط، تواصل اسبوعياً، نشر حلقات تلقي الضوء على آراء ومواقف ومشاريع كمال جنبلاط الاصلاحية . فنشرت حلقة اولى عن الاصلاح الصحي وثلاث حلقات عن الاصلاح السياسي في رئاسة الجمهورية ثم في السلطة التشريعية وفي السلطة التنفيذية وقبل الانتقال الى الاصلاح في مجالات اخرى كما هو مقرر في البرنامج برزت فجأة دعوة غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي لاعتماد مبدأ الحياد كسبيل لانقاذ لبنان من معاناته . واصبح الموضوع مطروحاً بقوة على طاولات البحث ، وكالعادة انقسم اللبنانيون حوله بين مؤيد ومتردد ومعارض.

ولما كان للمعلم كمال جنبلاط رؤيته المستقبلية للسياسة الخارجية المثلى للبنان ، وموقف واضح من الحياد ، لذلك ارتأينا تخصيص هذه الحلقة لهذين الموضوعين . لعل الاطلاع عليهما يساعد في تحديد وتوضيح المواقف.

اولاً: موقف كمال جنبلاط من الحياد
فكرة الحياد ليست جديدة او طارئة فهي تعود لفترة خمسينات القرن الماضي ، حيث شهد العالم آنذاك حرباً باردة بين معسكرين رأسمالي ليبرالي من جهة واشتراكي شيوعي من جهة ثانية ، وسعي كل معسكر الى اقامة احلاف تابعة له تساعده في التفوق على الخصم . واعتمد المعسكران لهذه الغاية مختلف وسائل الترغيب والترهيب ، فتعرض لبنان الى ضغوط للانضمام الى مشروع ايزنهاور تارة والى حلف بغداد تارة اخرى . وانقسم اللبنانيون بين مؤيد للانضمام ومعارض له. وفي مطلع العام 1957 عقد في القاهرة مؤتمر لشعوب آسيا وافريقيا شارك في اعماله وفد من لبنان وتبنى مبدأ الحياد الايجابي بين المعسكرين . فكان للمعلم كمال جنبلاط موقفه من هذا الاعلان عبّر عنه في مقال نشرته جريدة الانباء بتاريخ 22/3/1957 تحت عنوان “بين الحياد وعدم الارتباط” نقتطف منه:
“نحن نفهم بالحياد الايجابي ان يكون: عدم الارتباط العسكري او السياسي ، وعدم الاصطفاف بجانب اي من المحاور من حيث هي معسكرات وتحالفات. وكنا نفضل عدم استخدام هذه العبارة لعدة اسباب منها:
1- لا حياد بالنسبة الى الحرية والحق اي حق. فحيث يوجد نضال لأجل الحرية والحق والعدالة، فاننا كبشر، وكلبنانيين وكعرب، موجودون روحاً وفكراً ونضالاً. نشترك على قدر ما نستطيع في نضال الحق والحرية لانهما فوق مستوى الاوطان، وفوق مستوى السياسة. ويجب ان يكونا هدف كل نشاط بشري رفيع.
2- لأن الحياد موت وعقم، اما الحياة فهي تفاعل دائم وتبدل في الاشكال والصور والاحاسيس والنشاطات، هي اشتراك دائم في النضال. الجماد وحده حياد اما الحياة فنضال نضال نضال من اجل انتصار الحق والعدل والحرية .
3- وعلى العكس من ذلك، نحن نقول بالتعاون الايجابي لان التعاون هو من طبيعة الحياة والاجتماع البشري، ولان الايجابية هي من اتجاهات الخير والتعمير والانشاء الكبرى. لا يكون الخير ولا العمل ولا الحق ولا الحرية بالامتناع عن العمل، بل بالعمل وبالتمرس بالفعل، وبالاشتراك في الصيرورة. ونقول ايضاً بعدم الارتباط السياسي او العسكري بالاحلاف القائمة وبعدم الاصطفاف مع اي محور من المحاور.
4- لان هناك تناقضاً اساسياً في عبارة “الحياد الايجابي” ذاته، فكيف يمكن للانسان ان يكون حيادياً – اي متفرجاً – وايجابياً في الوقت نفسه! الحياد سلبية بحد ذاته او عدم اشتراك، والايجابية مشاركة ومساهمة. فكيف يمكن على سبيل المثال، ان نكون حياديين بالنسبة للاستعمار؟ او ان نكون حياديين بالنسبة الى الحرية او بالنسبة الى الطغيان او للاغتصاب، كاغتصاب اسرائيل لفلسطين؟
5- لان الحياد القانوني العام على الطريقة السويسرية يقتضي عدم الانتساب الى اي مؤسسة اقليمية او دولية وعدم المشاركة في النزاعات، وخاصة في الدول المجاورة.

واذا اراد لبنان اعتماد مثل هذا الحياد فعليه ان ينسحب من الامم المتحدة ومن كل مؤسساتها، ومن جامعة الدول العربية، ويمتنع عن اي تدخل في شؤون الدول الاخرى، وعدم ممارسة اي سياسة او ديبلوماسية تخرج عن العزلة الحيادية.
اما في غير هذا المعنى المحدود، فلا نفهم الحياد على الاطلاق”.
(المرجع: “كتاب كمال جنبلاط : نافذة على العالم” ص. 81 – 89)

ثانياً: رؤية كمال جنبلاط للسياسة الخارجية المثلى للبنان
نبّه كمال جنبلاط اللبنانيين والعرب من انه:
“في اية حرب مقبلة لن تتمكن الشعوب الصغيرة والمتوسطة ان تحافظ على حيادها، ولكن يمكنها ان تحفظ نفسها، منذ الساعة، في زمن السلم، وذلك بأن تتكفل في تثبيت حيادها بين المعسكرين المتحاربين، ويعتبر خائناً لقضية السلم كل من ينحاز الى احد المعسكرين لانه بذلك يكون قد اعطاه جزءاً من القوة التي يحتاجها في سبيل منازلة الخصم.”
(المرجع: كتاب كمال جنبلاط: نافذة على العالم ص. 53 من مخطوط بخط كمال جنبلاط – تاريخ 5/4/1957)

وحدد رؤيته للسياسة الخارجية المثلى للبنان بقوله:
“بما ان الحياد على اطلاقه يعني وجوب انسحاب لبنان من جامعة الدول العربية ومن منظمة الامم المتحدة، وهذا بالغ الضرر على لبنان، لذلك قلنا بأن الحياد السياسي لا يقوم الا بالنسبة الى النزاع الدولي للمعسكرين الرامي الى السيطرة العالمية.
ومن ابرز مظاهر الحياد السياسي، بالنسبة الى سياسة النفوذ والسيطرة على العالم، هو عدم الارتباط بالاحلاف والمحاور. وسياسة السلم التي نؤيدها تقضي برفض المعسكرات وسياساتها لانها تتناقض مع روح ونص شرعة الامم المتحدة،وتمنع هذه المنظمة من ان تقوم بالمطلوب منها لحفظ السلام العالمي.
ويجدر بنا الان ان نوضح بعض التطبيقات العملية في حقل السياسة الخارجية المثلى للبنان وبعض مستلزمات هذه السياسة:
1- عدم الارتباط بمعاهدات واحلاف سياسية وعسكرية تقضي على حيادنا السياسي بالنسبة الى النزاع القائم على السيطرة على العالم وموارده.
2- التاكيد الدائم على حسن نياتنا ورغبتنا في التعاون الايجابي مع الدول الاخرى على اساس ضمان مصالحنا الحيوية والقومية، ومساعدتنا لبلوغ بعض الاهداف المشتركة، وفي مقدمها اعادة الحق الفلسطيني.
3- انتهاج الحكمة والحذر الدائم والاعتدال في سياستنا الخارجية لان التطرف والانحياز يجرّنا، عاجلا ام اجلاً الى الصراع العنيف مع هذا المحور او ذاك ، ويدفعنا بالتالي الى الاستنجاد بأحد المعسكرين والخروج عملياً من سياسة الحياد السياسي وعدم الارتباط ، وندخل بلدنا في خضم الحروب الباردة وربما الساخنة.
4- سياستنا الخارجية تقضي ان نكون اخلاقيين في تصرفنا الدولي ومتمسكين بالحق الدولي وبحقوق الانسان. فعلى قدر ما نحترم الحق الدولي وننتهج سياسة صدق وكفاءة خلقية على قدر ما نكتسب فعالية دور في المحيط الاقليمي وعلى المستوى الاممي.
5- التأكيد الدائم على ان سياسة عدم الارتباط لا تعني اطلاقاً التخلي عن النضال العالمي الرامي الى تحقيق الحرية والعدالة وتقرير المصير للشعوب وعلى رأسها الشعب الفلسطيني.
6- يقتضي التمرس بهذه السياسة الثقة بالنفس وبالمصير، اي التخلص من مركّب الخوف والنقص فينا.

هذه بعض متطلبات سياسة عدم الارتباط والتعاون الايجابي، ولا تتم ولا تقوم الا عندما تنمو في نفوسنا الوطنية الايجابية . لا هذه السياسة السلبية الحالية القائمة على الحقد والانتقاد والتبجح.

رسالة لبنان في الداخل والخارج، يجب ان تكون متحررة بشكل مطلق من التفكير الضيق الانعزالي لكي نستطيع ان يكون لنا سياسة خارجية وديبلوماسية تجاري التطور العالمي العام واهدافه وتتوافق مع اماني الشعوب في كل بلد من البلدان.”
(المرجع: كتاب كمال جنبلاط: نافذة على العالم ص. 70 – 75 – تاريخ 19/4/1957)

وبعد ما تعرض له لبنان والدول العربية من تحديات رافقت هزيمة حرب سنة 1967 امام العدوان الاسرائيلي المتمادي على الاراضي الفلسطينية والعربية، نشر كمال جنبلاط مقالاً في جريدة الانباء بتاريخ 14/9/1968، طرح فيه العديد من التساؤلات حول التطورات في لبنان ، نذكر منها:
“هل نستطيع ان نسمي لبنان دولة وحكومته تجهل واقع ارقام ميزانيتها ؟ وهل نستطيع ان نسمي لبنان دولة ولا توجد لهذه الدولة خطة عامة علمية للعمل ؟ وهل لبنان دولة ودستوره طائفي ونظامه طائفي ؟ وهل لبنان دولة وليست له سياسة عربية واضحة ومقام عربي مرموق وهو لا يشارك في الدفاع عن اقدس قضايا العرب ، قضية فلسطين؟ المطلوب ان يصبح لبنان دولة قبل البحث في اي شأن آخر”.
(المرجع: كتاب كمال جنبلاط : نظرة في الشؤون اللبنانية والذهنية السياسية – ص. 180 – من مقال بعنوان”الزحف المنتصر لشعب لبنان”)


Shares
facebook sharing button
twitter sharing button
messenger sharing button
whatsapp sharing button
sharethis sharing button