إن الأزمات التي تواجهها المنطقة العربية في هذه المرحلة هي أكبر وأخطر من اللعبة التي يمارسها نتنياهو في غزة هذه الأيام . فهو يأمر بهدم الأبراج السكانية للضغط على حماس وإجبارها على الإفراج عمن تحتجزه من رهائن إسرائيليين لديها. وهو يعلم في الوقت ذاته أن لعبته لن تنجح ويستخدم ذلك كذريعة لمواصلة حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة تجويعا وتشريدا وإغتيالا لحملهم على التهجير وإفراغ غزة من أهلها . كما أنه يدرك تماما فشله في تحقيق أهدافه فرغم الارتكابات اللا إنسانية التي يتفنن في استخدامها ضد أهل غزة منذ 28 تشرين الأول عام 2023 وحتى اليوم، لكنه يتمسك بمواصلة ارتكابها لضمان بقائه في السلطة والتهرب من مواجهة مساءلته ومحاسبته عما جرّه على إسرائيل من مخاطر بسبب نزعاته وهوسه بالعظمة .
اطماع وطموحات نتنياهو أوسع بكثير مما يسعى إليه في غزة . نتنياهو الذي يرأس حكومة إسرائيل لأكثر من 20 عاما مدعوما من التطرف العنصري الصهيوني ومن الدعم الشامل غير المسبوق من إدارة ترامب تمويلا وتسليحا وحماية ، يريد نتنياهو للحرب أن تستمر على كل الجبهات من غزة إلى الضفة الغربية إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن وصولا إلى إيران ذاتها بهدف تحقيق الحلم التوراتي الخرافي بإقامة شرق أوسط جديد تديره إسرائيل العنصرية وتدعمه وتحميه الولايات المتحدة الأمريكية أو استبداله في حال فشله باجتياح عسكري للدول المجاورة لإسرائيل وإخضاعها لإقامة دولة إسرائيل الكبرى التوراتية من النيل إلى الفرات.
هذا عن المحور الأمريكي الإسرائيلي ، وفي المقابل في المحور الممانع الذي تديره وتحوليه وتسلحه الجمهورية الإسلامية في إيران ، بعد أن تفاجأ النظام بوصول الحرب إلى أرضه في حرب الاثني عشر يوما واغتيال القادة العسكريين والعلماء النوويين وتدمير معظم المنشآت النووية والصاروخية ، نراه يريد التفاوض والتراوغ في آن على أمل إنقاذ النظام الحاكم في إيران ويضغط على أذرعه للتمسك بالسلاح رغما عن السلطات الشرعية في لبنان والعراق واليمن وغزة والتي يستخدمها أوراقاً ضاغطة في التفاوض مع الشيطان الأكبر الولايات المتحدة والشيطان الأصغر إسرائيل دون الأخذ بالاعتبار عما قد تتعرض له الدول من مخاطر بسبب هذا السلاح.
وفي هذه الأثناء ينشط تحرك عربي دولي واسع للاعتراف بقيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل على أرض فلسطين ، والصراع على أشّده هذا الشهر في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة بين الفريق الداعم لقيام الدولة الفلسطينية الذي تقوده المملكة العربية السعودية وفرنسا نيابة عن الدول العربية والإسلامية والأوروبية وبين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية الرافضة كليا على القبول بقيام هذه الدولة وتصعّد حربها الإلغائية ضد الفلسطينيين وضغوطها على الحكومات التي قررت الاعتراف بالدولة الفلسطينية .
ننتنياهو يريد استغلال الفرصة المناسبة بوجود شريكه ترامب على رأس الإدارة الأمريكية لتحقيق طموحاته بأنه صانع المعجزات لشعب إسرائيل ، وقاهر كل الأعداء والقادر على فرض الاستسلام على الجميع للحصول على الأمن والتفوق والسيادة لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط متجاهلا ما جرته مغامراته الشعب اليهودي من أزمات وانقسامات ومخاطر تجعل أحلامه تذهب أدراج الرياح . فإسرائيل بقيادة ننتنياهو لم تعد النموذج المحبب لكثير من الدول بعد أن ساءت علاقاتها وازداد انتقادها على ارتكاباتها ، وتحوّل الرأي العام الشعبي ضدها لصالح الحق الفلسطيني المهدور.
وسط كل ما يحصل من الأحداث في المنطقة ، لبنان اليوم عالق أمام اختيار صعب المراجع الدولية تطالب حكومته بحصرية السلاح وقرار الحرب والسلم وإلا يواجه العزلة والحصار واستمرار المعاناة ، والتجاوب مع هذه المطالب يعرضه إلى انقسام داخلي مذهبي وربما اقتتال أهلي بسبب ضغط إيراني للابقاء على سلاح ذراعها في لبنان لاستخدامه كورقة لتحسين شروط تفاوضها مع الولايات المتحدة والقوى العالمية . عسى أن يعي أرباب الحكم والسياسة حجم هذا المأزق وتداعياته فيعملون على اجتراح الحل الأنسب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وحفظ الكيان.